هذه واحدة من خصائصه ﷺ، وهي إباحة القتل في الحرم.
ففي الحديث المتفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: (لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا)
(2).
فالحديث فيه النص الواضح على هذه الخصوصية ولوقت محدود. هو ساعة من نهار، والتي كان فيها قتل ابن خطل وكان متعلقاً بأستار الكعبة.
وقد اختلف العلماء في إقامة حد القتل في الحرم:
______________________
2. متفق عليه (خ 1834، م (1353). والخلا: هو الرطب من الكلأ، أي لا يقطع.
قال ابن حجر: “واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم، فأما القتل فتقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها.
وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم.
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي.
واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما، أنه لا يجوز القتل فيها مطلقاً، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ ويذكر حتى يخرج.
وقال أبو يوسف: يخرج مضطراً إلى الحل.
وفعله ابن الزبير:
وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: “من أصاب حداً ثم دخل الحرم، لم يجالس ولا يبايع”.
وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقاً فيه، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن” (1).
وقد كان العرب قبل الإسلام يخرجون من أرادوا قتله من الحرم إلى الحل، وهو ما فعلوه عندما أرادوا قتل خبيب بن عدي رضي الله عنه.
______________________
1. فتح الباري 4/ 49.
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قصة أصحاب يوم الرجيع وفيها: “فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين..” (1).
وقد بينت سيرة ابن هشام أنهم خرجوا به إلى التنعيم (2). وهو الموضع الذي أقيم فيه مسجد التنعيم، كما قال موسى بن عقبة (3).
تنبيه: قال ابن الملقن في صدد حديثه عن هذه الخصوصية: “المسألة الخاصة: القتل في الحرم، فإنه قتل ابن خطل (4) وهو متعلق بأستار الكعبة، كذا رأيت في التلخيص لابن القاص وتبعه القضاعي وقال: إنه خص من بين سائر الأنبياء.
وفي الخصوصية نظر: لأن ابن خطل صاحب جرم، والحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة، كما ثبت في الصحيح” انتهى.
والكلام فيه إيهام من وجهين:
الأول: التشكيك في الخصوصية، وقد تبين إثبات ذلك كما ورد بنص الحديث الشريف من قول النبي ﷺ.
الثاني: في قوله: “والحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة، كما ثبت في الصحيح.
______________________
1. أخرجه البخاري برقم (3045).
2. سيرة ابن هشام 2/ 172.
3. فتح الباري 7/ 383.
4. ابن خطل، هو عبدالله، رجل من بني تميم، إنما أمر بقتله أنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً – أي جامعاً للصدقات – وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان مسلماً، فنزل – منزلاً وأمر المولى أن يذبح تيساً، فيصنع له طعاماً، فنام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. (سيرة ابن هشام 2/ 409 -410).
فكلامه يشعر أن هذا من كلام رسول الله ﷺ، وخاصة عندما أورده كدليل على أن قتل ابن خطل كان حداً وقصاصاً.
وليس الأمر كذلك، فهذا من كلام عمرو بن سعيد ولا حجة فيه ويحسن بنا أن نورد النص بكامله لبيان هذا الأمر الذي وقع فيه ابن الملقن.
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ العدوي:
أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ (1)، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ). فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إن الحرم لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ
– خربة: بلية – (2).
وعلق ابن القيم رحمه الله على قول عمرو بن سعيد بقوله: “عارض عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه.. ” (3).
______________________
1. هو عمرو بن سعيد بن العاصي يعرف بالأشدق، ليست له صحبة، ولا كان من التابعين بإحسان، وهو والي يزيد على المدينة، فكان يرسل الجيوش لقتال ابن الزبير (فتح الباري 1/ 176).
2. متفق عليه (خ 1832، م 1354).
3. زاد المعاد 3/ 443.
فاستشهاد ابن الملقن بقول عمرو وعزوه إلى الصحيح دون بيان، أمر موهم كان لا بد من بيانه.