من حكمة الله تعالى أن أعطى كل نبي من الآيات ما يتناسب مع مجتمعه لتكون الحجة قائمة عليهم، وكانت آية القرآن متناسبة مع مهمة الرسالة الخاتمة، وبحسن بنا أن نبين ذلك من خلال النقاط التالية:
1- من حيث الزمن:
كانت الرسالات السابقة محدودة بالأقوام والأزمان، ولذلك كانت معجزاتهم ملبية لحاجة القوم الذي يعاصر النبي ثم يتناقل الأقوام بعد ذلك هذه المعجزات.
أما الرسالة الخاتمة فكانت مهمتها مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك كان لها سمة الاستمرار والبقاء، فقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم.
وبما أن الإسلام ناسخ لجميع الأديان، اقتضت حكمته تعالى أن تكون معجزة هذا الدين مستمرة بهذا الكتاب، لتكون الحجة قائمة على الناس ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
2- من حيث الأثر:
لاحظ العلماء عند دراستهم لتاريخ الأنبياء ومعجزاتهم: أن معجزات كل نبي كانت مناسبة لحال قومه، حتى يكون للمعجزة معنى، إذا هي تتحداهم فيما يتقنون.
فقد كان السحر فاشياً في عهد فرعون، فجاءت معجزة العصا عند موسى عليه السلام على صورة ما يصنع السحرة، ولكنها في حقيقتها أمر من أمر الله تعالى، ولذلك عندما وقعت المعارضة بين موسى وبين السحرة، كان السحرة أول من آمن، لأنهم الخبراء بهذا الفن، فعرفوا من حقيقة العصا ما لم يعرفه بقية الناس وما أحرانا أن نقف أمام القرآن الكريم وهو يصور لنا ذلك المشهد:
قال تعالى:
{فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَٰتِ يَوْمٍۢ مَّعْلُومٍۢ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَٰلِبُونَ فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ قَالُوٓا ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ}
(1).
وأما في زمن عيسى عليه السلام فقد كان الأطباء في غاية الظهور، وصنعتهم هي الرائجة، فأتاهم عيسى عليه السلام بجنس عملهم بما لم تصل إليه قدرتهم. جاء بإبراء الأكمة والأبرص، وهي أمراض مستعصية على العلاج. وجاءهم بما لم يخطر بفكرهم ولا فكر الطب مهما تقدم. جاءهم بإحياء الموتى وكل ذلك بإذن الله تعالى.
قال تعالى:
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔة ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ }
(2).
______________________
1. سورة الشعراء، الآيات (38- 47).
2. سورة آل عمران، الآية (49).
وفي زمن محمد ﷺ كان العرب الذين بعث فيهم على الغاية من البلاغة والفصاحة. فجاء القرآن في بعض ما جاء فيه يتحداهم بما يتقنون من فن الكلمة، فقال تعالى:
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَٱتَّقُوا ٱلنَّارَ}
(1).
وفي قوله تعالى:
{وَلَن تَفْعَلُوا}
تحد ليس وراءه تحد مثله.
على أن تحدي القرآن هذا لم ينقض مع الزمن الذي نزل فيه، بل هو مستمر على مر العصور، وعلى تتابع البلغاء والفصحاء في كل فرن وكل جيل.
3- الحس والعقل:
وكانت معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حسية مادية تشاهد بالأبصار كالعصا واليد، وإبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى، بينما كانت معجزة القرآن محلها العقل وتشاهد بالبصيرة.
ولهذا كانت مستمرة، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، وما يشاهده بعين العقل يشاهده كل ذي عقل على مر العصور (2).
هذه الجوانب وغيرها تجعل للقرآن خصوصية فريدة في كل وجه من وجوهها، لا يقاس بها غيرها، ولا يمكن أن يرقى لذلك.
______________________
1. سورة البقرة، الآيتان (23- 24).
2. انظر – إن شئت – فتح الباري 9/ 6-7.
4- وجوه الإعجاز في القرآن الكريم:
وقد تكلم العلماء في إعجاز القرآن الكريم، وألفت فيه الكتب، فعجزوا عن استيعاب ذلك، وكلما مر الزمن برزت وجوه من الإعجاز لم تكن بادية من قبل.
قال الإمام ابن حجر ناقلاً عن الإمام عياض:
“وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء:
أحدها- حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة.
ثانيها- صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظماً ونثراً، حتى حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله، مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك، وتقريعه لهم على العجز عنه.
ثالثها- ما اشتمل عليه من الأخبار عما مضى من أحوال الأمم السالفة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب.
رابعها- الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي، وبعضها بعده.
ومن غير هذه الأربعة – آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها، فعجزوا عنها، مع توفر دواعيهم على تكذيبه، كتمني اليهود الموت.
– ومنها: الروعة التي تحصل لسامعه.
– ومنها: أن قارئه لا يمل من ترداده، وسامعه لا يمجه، ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة ولذاذة.
– ومنها: جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها، ولا تنتهي فوائدها” انتهى (1).
______________________
1. فتح الباري 9/ 7.
أقول: وما زالت وجوه الإعجاز تتوالى، فقد ظهر في أيامنا ما أطلق عليه: “الإعجاز العلمي” وطرحت معطياته بين أيدي الباحثين والعلماء. مما كان له الأثر الكبير في إسلام عدد من العلماء الكبار.
وبهذا أو غيره تظل معجزة القرآن فريدة بين المعجزات جميعها، سواء ما أعطى الأنبياء السابقين، أو ما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم من المعجزات الأخرى.
وأخيراً – وفي ختام هذا الفصل – لا بد من الإشارة، إلى أمر مهم، وخصوصية أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ هذا الكتاب الكريم، بنوعين من الحفظ. وهذا لم يكن لكتاب آخر.
النوع الأول من الحفظ: هو الحفظ الكلي. قال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ}
(1).
فقد تكفل الله تعالى بحفظه على مر الأيام والليالي، فلا يذهب منه شيء، ولا يضيع شيء.
محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان.
النوع الثاني من الحفظ: هو حفظ الأجزاء. وهذا النوع من الحفظ هو تأكيد على جانب مما جاء في الحفظ الأول.
فقد قال تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ}
(2).
______________________
1. سورة الحجر، الآية (9).
2. سورة فصلت، الآيتان (41- 42).
فلم يستطع كل الملاحدة والمارقين من التشكيك في كلمة من كلماته أو حرف من حروفه.
ثم جاءت آية سورة النساء كالختم والتأكيد والبرهان على هذا الحفظ، وعلى ربانية المصدر، وذلك قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}
(1).
______________________
1. سورة النساء، الآية (82).