من أدلة صدق النبي ﷺ عدم إرادة المصلحة الشخصية لنفسه من هذه الدعوة، وقد نبه الله تعالى إلى هذا الدليل بقوله:
{قُلْ مَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍۢ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ}
[ص: 86].
وهذا على خلاف أصحاب المذاهب المنحرفة والأفكار الباطلة والدجالين والكذابين؛ فإنهم يسعون لتحقيق مصالح شخصية ومآرب ذاتية من جاه أو مال أو نساء أو أتباع أو منصب أو شهرة أو غير ذلك، بينما لا تجد هذا في النبي ﷺ وإخوانه من الرسل والأنبياء، فهو أزهد الناس في الدنيا؛ فقد كانت تمر ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت رسول الله ﷺ نار، وإنما كان طعامه التمر والماء (1)، وتأتي الفقيرة إلى بيت رسول الله، فلا تجد عائشة رضي الله عنها إلا تمرة واحدة فتعطيها إياها (2)، وأحيانا يتي الضيف فيرسل النبي ﷺ إلى بيوته التسعة، فلا يجد فيها شيئاً حتى التمرة، ليس في بيوته التسعة إلا الماء (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: (البخاري: كتاب الهبة، باب: الحديث، رقم (2567)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، رقم (2972)).
2. متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، رقم (1418)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: فضل الإحسان إلى البنات، رقم (2629).
3. متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (البخاري: كتاب المناقب، باب: قول الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ} [الحشر: 9]، رقم (3798)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم (2054).
ولقد خيره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل إلى النبي ﷺ فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك، قال: إفملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: “بل عبداً رسولاً” (1).
وكان أزهد الناس في الدنيا وزخرفها، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأيت النبي ﷺ وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم (2) حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظاً (3) مصبوباً، وعند رأسه أهب (4) معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال: “ما يبكيك؟”، فقلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله. فقال: “أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة” (5).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
اضطجع النبي ﷺ على حصير فأثر في جلده، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئاً يقيك منه، فقال رسول الله ﷺ: “مَا لي وَالدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا” .
(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الإمام أحمد (7120)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/3)، رقم (1002).
2. الأدم: الجلد. مختار الصحاح (1/ 4).
3. القرظ: ورق شجر يدبغ به. لسان العرب (7/ 454).
4. أهب: جمع إهاب وهو الجلد ما لم يدبغ. لسان العرب (1/ 217).
5. متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: {تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ ۚ } [التحريم: 1]، رقم (4913)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء، رقم (1479)).
5. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، رقم (2377)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، رقم (4109)، وإسناده صحيح؛ انظر: صحيح سنن ابن ماجه للألباني (2/ 394)، رقم (3317).
وكان لا يحب أن يرفعه الناس فوق قدره:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: “لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ” .
(1)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ”.
(2)
وعن عبد الله بن الشخير العامري رضي الله عنه انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ: “السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى” قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: “قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ” .
(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَرْيَمَ} [مريم: 16]، رقم (3445).
2. أخرجه الإمام أحمد، رقم (12141)، وإسناده صحيح، كما في غاية المرام للألباني (ص 97)، رقم (123)، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1985م.
3. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: في كراهية التمادح، رقم (4806)، وأحمد (15876)، وإسناده صحيح، انظر: غاية المرام في تخريج الحلال والحرام، للألباني (ص 99)، رقم (127)، وصحيح سنن أبي داود (3/ 912)، رقم (4021).
وكان لا يحب أن يقوم له أحد إذا دخل:
وعن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ، وكان إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلموا من كراهيته لذلك (1).
ولا يحب أحداً أن يقف فوق رأسه كما تفعل الملوك والقياصرة:
فقد أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قَالَ:
اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا” .
(2)
وهذا أمر عجيب؛ فقد ذكر الفقهاء أن القيام في صلاة الفريضة من أركان الصلاة (3)، ومع هذا لما أحس النبي ﷺ أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى المبالغة في تعظيمه أمرهم بالقعود.
وعن أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ .
(4)” (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الإمام أحمد (11936)، والترمذي، كتاب الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، رقم (2754)، وإسناده صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة، للألباني (1/ 698)، رقم (358).
2. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، رقم (413).
3. انظر: كتاب الكافي، لابن قدامة المقدسي (1/ 279)، تحقيق: د. عبد الله التركي، دار هجر، الطبعة الأولى، 1997م.
4. القديد من اللحم: ما قُطع طولاً وملح وجُفف في الهواء والشمس. المعجم الوسيط: (ق د د).
5. أخرجه ابن ماجه: كتاب الأطعمة، باب: القديد، رقم (3312)، وهو صحيح كما قال الألباني في صحيح ابن ماجه (2/ 232)، رقم (2677).
بل كان النبي ﷺ يلزم خاصته وأهله بالزهد أيضاً، فقد خير أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بين البقاء معه على هذه الحال ولهن الجنة، وبين الدنيا ويطلقهن، فاخترن البقاء معه (1):
قال تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}
[الأحزاب: 28 – 29].
وجاءته فاطمة ابنته رضي الله عنها تسأله خادماً من السبي، فوزعه النبي ﷺ على الناس، ولم يعط فاطمة منها شيئاً، مع شدة حبه لها وشدة حاجتها إليه:
عن علي قَالَ:
شَكَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى فَأُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ فَلَمْ تَرَهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَتْهُ فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ” .
ـ
(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الحديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: (البخاري: كتاب التفسير، باب:قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ} [الأحزاب: 28])، رقم (4786)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب: أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً. . .، رقم (1475).
2. متفق عليه (البخاري: كتاب فرض الخمس، باب: الدليل أن الخمس لنوائبه، رقم (3113)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم (2727).
وفي رواية أبي داود قال علي لابن أعبد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وكانت أحب أهله إليه، وكانت عندي فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضر، فسمعنا أن رقيقاً أتي بهم إلى النبي ﷺ، فقلت: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك، فأتته فوجدت عنده حداثاً (1) فاستحببت فرجعت، فغدا علينا ونحن في لفاعنا (2)، فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها، فقال: “ما كان حاجتك أمس إلى آل محمد؟” فسكتت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله؛ إن هذه جرت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وبلعنا أنه قد أتاك رقيق أو خدم، فقلت لها: سليه خادماً. . (3).
فانظر كيف قسم النبي ﷺ السبي ولم يعط فاطمة رضي الله منه شيئاً!
بل كان يحرم الصدقة عليه وعلى آله بيته، ويقول:
“لَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَدْرَ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ”.
(4)
فالنبي ﷺ قبل النبوة كان له مكانة عظيمة في قومه، ولا ينادونه إلا الأمين والصادق، وإذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه (5)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أي: رجالاً يتحدثون. انظر: عون المعبود في شرح سنن أبي داود، للعظيم أبادي (8/ 149)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م
2. أي: في غطائنا، باللفاع ما يجلل به الجسد كل كساء كان أو غيره. الوسيط: (ل ف ع).
3. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: في التسبيح عند النوم، رقم (5062).
4. أخرجه النسائي، كتاب قسم الفيء، رقم (4139).
5. كما حصل عندما اختلفت قريش عند بناء الكعبة، فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه، فاحتكموا إلى النبي ﷺ، ففض الخصام بأن بسط عباءته ووضع الحجر الأسود عليها، وأمر كل رأس قبيلة أن يأخذ طرفاً من أطراف العباءة، فحملوه كلهم حتى وضعوه في مكانه.
انظر: الرحيق المختوم (ص 58).
وكان متزوجاً من امرأة غنية، وله أعرق نسب في قريش، فعنده المال والمرأة الجميلة والمكانة المرموقة والسمعة الطيبة والنسب الشريف، فكيف يترك هذا كله ويحارب الناس أجمعين، ويكفرهم إلا من كان على طريقته، ويقول لقريش: “جئتكم بالذبح” (1). وترميه العرب عن قوس واحدة، ثم بعد هذا كله ليس له من فعله أي مصلحة دنيوية؛ لا له ولا لأبنائه ولا لأهله، بل حتى لما مات لم يعط الخلافة لأحد من قرابته ولا جعل لهم نصيب من الأرث فقال ﷺ: “نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة”، فما كان لرجل يترك الكذب أربعين سنة، حتى صار طبعاً له وسجية من سجاياه الثابتة التي يصعب انتزاعها منه، بل حتى لو أراد الكذب لأبت عليه طباعه وسجاياه ذلك، ثم بعد هذا التاريخ الطويل والسمعة السامية يقوم وينتحل الكذب، وليس أي كذب بل أشد أنواعه وهو الكذب على الله تعالى، وهو مع هذا لا يهدف إلى مصلحة ولا إلى غرض شخصي؟ إن هذا لا يمكن أن يتصوره عاقل.
إن عدم رغبة النبي ﷺ في متاع الدنيا دليل أنه إنما فعل هذا طاعة لله بوحي منه سبحانه وتعالى.
وقد وفق بعض المستشرقين المنصفين لفهم هذا المعنى وإدراكه؛ يقول (كارليل) (2): “ومما يبطل دعوى القائلين إن محمداً ﷺ لم يكن صادقاً في رسالته؛ أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، ولم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الإمام أحمد (رقم 6996)، وإسناده صحيح.
2. تقدمت ترجمته.
مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاء وسلطان، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب” (1).
وقد استدل بهذا الدليل حبيب النجار (2) في سورة يس؛ كما قال تعالى
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱتَّبِعُوا ٱلْمُرْسَلِينَ ٱتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْـَٔلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ}
[يس: 20- 21] .
وهذا الدليل حق، وكان كل نبي يأتي إلى قومه يقول لهم هذا الأمر، ففي سورة الشعراء قال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام:
{وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}
[الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الأبطال، لكارليل (ص 51)، عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، د. محمود ماضي (ص 127)، مكتبة دار الدعوة، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1996م.
2. انظر: تفسير البيضاوي (4/ 429)، وتفسير القرطبي (15/15)، وتفسير ابن كثير (3/ 569) وغيره من كتب التفسير.