شهادة التوراة والإنجيل والكتب السابقة بصدق الرسول ﷺ ومعجزته (القرآن) من أكثر الأدلة غزارة على ذلك، فقد قال سبحانه وتعالى:
{وَإِنَّهُۥ لَفِى زُبُرِ ٱلْأَوَّلِينَ}
[الشعراء: 196].
يقول القرطبي: “أي: وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني: الأنبياء، وقيل: أي: إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين؛ كما قال تعالى:
{يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ}
[الأعراف: 157]،
والزبر الكتب، الواحد زبور، كرسول ورسل” (1).
وقال سبحانه وتعالى:
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}
[الصف: 6].
وقال سبحانه وتعالى مبيناً أن النبي ﷺ وأصحابه ليسوا فقط مذكورين في التوراة والإنجيل بأسمائهم، بل بصفتهم كذلك:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُۥ فَئَازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا}
[الفتح: 29].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الجامع لأحكام القرآن (13/ 93).
بل بلغ من وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه ﷺ في الكتب السابقة أنهم أصبحوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه؛ قال سبحانه وتعالى:
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[البقرة: 146].
وفيما يلي بعض نصوص التوراة والإنجيل (1):
-
في التوراة: في سفر التثنية الأصحاح (18) فقرة (15 – 30): يقول الرب لموسى: “سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم (2) مثلك (3) أجعل كلامي في فيه (4)، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه (5) ومن سبطه”.
وقد ألف العديد من العلماء كتباً جمعوا فيها النصوص من التوراة والإنجيل، وغيرها من الكتب السابقة، التي تشهد على صدق نبوة نبينا ﷺ، منهم:
– إبراهيم خليل أحمد، ألف كتاب “محمد في التوراة والإنجيل والقرآن”.
– والداعية أحمد ديدات، ألف كتاب “ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ﷺ؟”.
– ود. أحمد حجازي السقا، ألف كتاب “البشارة بني الإسلام في التوراة والإنجيل”.
– ود. صلاح صالح الراشد، ألف كتاب “البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب؛ 99 دليلاً على وجود النبي المبشر في التوراة والإنجيل.
– وفي كتاب ابن القيم رحمه الله “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى” فصل بعنوان “نصوص الكتب المتقدمة في البشارة بالنبي ﷺ، وكذا في كتاب شيخه ابن تيمية “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. إخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، والنبي ﷺ من بني إسماعيل.
2. وذكر الداعية أحمد ديدات ثمانية أوجه تدل على أن محمداً ﷺ مثل موسى عليه السلام وهي ليست في عيسى عليه السلام، انظر: “ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ﷺ؟” لديدات (ص 31- 42).
3. يعني: يحفظ كلام الله، وكان أهل الكتاب لا يحفظون التوراة والإنجيل.
4. وهذا قريب من معنى الآية التي في آل عمران:
5.{وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّينَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٍۢ وَحِكْمَةٍۢ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ ۚ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِى ۖ قَالُوٓا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَٱشْهَدُوا وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ}
[آل عمران: 81- 82].
وفي سفر التثنية، الأصحاح (18) فقرى (9- 13): “قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فيستقيم لكم الرب نبياً من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي”.
– وفي الإنجيل: في إنجيل يوحنا، الأصحاح (14) فقرة (15): “إن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط (1) روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من قبل الناس” (2).
وقد أخفى النصارى إنجيل برنابا الذي يصرح فيه باسم النبي محمد ﷺ وأنه النبي المبشر به من قبل المسيح وأنه آخر الرسل (3).
وصدق الله إذ يقول:
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ ۙ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}
[الأعراف: 157].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. وبعضهم يقول: (البارقليط) انظر: “تحفة الأريب” (ص: 267)، وانظر: “هداية الحيارى” لابن القيم (ص: 115) فإنه يسميه الفارقليط، والخلاف يسير وإنما حدث بسبب الترجمة.
2. وقد ذكر الدكتور حجازي أكثر من خمسين نصاً في الإنجيل على البشارة نبينا ﷺ.
3. انظر: كتاب الاختلاف والاتفاق بين إنجيل برناباً والأناجيل الأربعة، لمحمد عبد الرحمن عوض، دار البشير، القاهرة، (ذكر النقل عن برنابا. . .).
“وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
[الأحزاب: 45]
وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً) (1). وزاد الإمام أحمد: (قال عطاء لقيت كعباً (2) فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعباً يقول بلغته: أعينا عمومي وآذاناً صمومي وقلوباً غلوفي” (3).
وعن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة (4) إلى المدينة في حياة رسول الله ﷺ، فلما فرغت من بيعتي قلت: لألقين هذا الرجل لأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشراً التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه على ابن له في الموت، كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله ﷺ: “أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي”، فقال برأسه هكذا أي: لا، قال ابنه: إني والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: “أقيموا اليهود عن أخيكم، ثم ولي كفنه وحنطه وصلى عليه” (5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب: كراهية السخب في الأسواق، رقم (2018).
2. يعني: كعب الأحبار الذي كان يهودياً من علماء اليهود ثم أسلم.
3. أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (6585)، أصله في البخاري كما تقدم.
4. يعني: بضاعة: اسم مصدر من جلب، انظر: “لسان العرب” (1/ 268).
5. أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (22981) وإسناده صحيح (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، المجلد السابع، رقم (3269).
ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب قصة أبي محمد عبد الله الميورقي الترجمان (المتوفى سنة 832 هـ)، الذي كان من أكبر قساوسة النصارى في وقته، بل كان مهيئاً لأن يصبح البابا الأكبر، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي ﷺ، ثم ألف كتاب “تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب”، وقسمه قسمين؛ القسم الأول: في ذكر قصة إسلامه، والثاني: في الردود المفصلة على النصارى (1)، وذكر قصة انتقاله إلى الإسلام في سبع عشرة صفحة هذا مختصرها:
قال: اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة (2)، وكان والدي محسوباً من أهل حاضرة ميورقة، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرآن عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره من مدة سنتين على غير عادة قومي، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لإردة من أرض القسطلان (3)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرءون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازماً ذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية (4) من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جداً، وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ومن أبواب هذا القسم: باب في شهادة التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب على نبوة نبينا محمد ﷺ.
2. جزيرة في البحر الأبيض المتوسط جنوب إسبانيا وتابعة لها، انظر: “تحفة الأريب” (ص 61).
3. وهي مدينة في الأندلس، انظر: “تحفة الأريب” (ص 63).
4. هي مدينة تقع في دولة إيطاليا (بولويتا)، وإيطاليا هو أرض الأبزدية، لأنها كانت واقفة تحت سلطان اللومبارديين. (انظر: صفحات منسية من تاريخ الإسلام في إيطاليا، شبكة الألوكة).
رجل ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف الذي هو صباغ الله، فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: (نقلاو مرتيل)، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جداً، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك.
فقرأت على هذا القسيس علم أصوله النصرانية وأحكامها، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفة حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلي مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه، وصير جميع ذلك على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدي إليه، والله أعلم.
فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط) (1)، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. انظر: إنجيل يوحنا (15: 14 – 17)، والكلمة فيه (باركليتكس) وترجمتها في النسخة العربية (المعزي)، وهو تحريف، والصحيح أن معناها (كثير الحمد) انظر: تحفة الأريب (ص 266- 267).
وعظم مقالهم وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة، فأتيت مسكن القسيس، فقال: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكان فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل، فبادرت قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم.
فبكي الشيخ وقال لي: يا ولدي! والله إنك لتعز علي كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إلي، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي! والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك.
فقال لي: إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد ﷺ، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل.
فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي! لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.
فقلت: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام. فقلت: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة. فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم؛ فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال: يا ولدي! إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى، من رفعة الجاه والعز والترف وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله. فأبقى فيهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي (1). فقلت: يا سيدي! أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال: إن كنت عاقلاً، طالباً للنجاة، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، وأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء. فعاهدته بما يرضيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. وهذا سوء ظن بالمسلمين ولكنه كما قال هو: “حب الدنيا رأس كل خطئية”، وحدثني أحد المتخصصين في كتب النصارى وتاريخهم من أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أن هذا الرجل أسلم أيضاً وقتلته النصارى.
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية، وأقمت فيها خمسة أشهر وأنا أنتظر مركباً يتوجه في المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال، فلما نزلت بديوان تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبهم أيضاً بعض التجار الساكنين أيضاً بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد رحمه الله فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب، وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدللت عليه واجتمعت به، وذكره له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه إلى دار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، فاستأذنه لي فأذن لي، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عاماً، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله، فقلت للترجمان – وهو الطيب المذكور -: قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله سبحانه وتعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه من النبي ﷺ.
ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه قال: لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد إلى قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا! هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا، فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟ قالوا: نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل ذلك أبداً، فلما سمع ما عند النصارى بعث إلي، فحضرت بين يديه وشهدت شهادتي الحق بمحضر النصارى، فصلبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج، وخرجوا مكروبين محزوني، فرتب لي السلطان رحمه الله ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها، أعطاني مائة دينار ذهباً وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها، وولد لي منها ولد سميته محمداً على وجه التبرك باسم نبينا ﷺ (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. كتاب تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لأبي محمد عبد الله الميورقي الترجمان (ص 61- 76)، طبعته دار البشائر، بيروت، الطبعة الأولى، 1988 (بتصرف).