بيان ما هو سب في حقه ﷺ:
قال القاضي عياض رحمه الله:
“اعلم أن جميع من سب النبي ﷺ أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه (1)، أو خصلة من خصاله. أو عرض به (2)، أو شبهه بشيء على طريق السب له، أو الإزراء عليه (3). أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب.
وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه (4)، على طريق الذم، أو عبث (5) في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر (6)، ومنكر من القول وزور، أو غيره (7) بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه،
______________________
1. (دينه) أي أو انتقص شريعته.
2. (أو عرض به) أي قال في حقه ما لا يليق به تعريضاً لا تصريحاً.
3. (الأزراء عليه) أي التنقيص له.
4. (بمنصبه) أي بمكانته أو بأصله وحسبه.
5. (أو عبث) أي أو قاله على طريق الهزل والمجون.
6. (هجر) أي فحش وقبح.
7.(عيره) أي نسب له ما فيه عار عليه.
أو غمصه (1) ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة (2) لديه (3).
وهكذا يستوعب القاضي رحمه الله ذكر كل الحالات التي يصدر فيها الانتقاص سواء أكانت تصريحاً أم تلميحاً، أو تعريضاً. .
حكم من فعل ذلك:
اتفق علماء الأمة على أن حكم من فعل ذلك: القتل.
ولكنهم اختلفوا: هل يقتل حداً أو ردة.
– ومعنى أن يقتل حداً: أنه يقتل حتماً في الحال ولا تقبل توبته.
– ومعنى قتله ردة: أنه يستتاب قبل أن يقتل، فإن تاب وإلا قتل.
هذا في حق من فعل ذلك وهو مسلم، أما الكافر فيقتل حتماً.
وقد ذهب المالكية: إلى أنه يقتل حداً لا ردة، ولا تقبل توبته ولا عذره، إن ادعى سهواً أو غلطاً، وعبارة شيخهم العلامة خليل في مختصره: وإن سب نبياً أو ملكاً، وإن عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو ألحق به نقصاً، وإن في دينه أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه، أو زهده، او أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم (4).
______________________
1. (غمصه) أي نقص من قدره.
2. (المعهودة) أي المعتادة له ولسائر الأنبياء عليهم السلام.
3. الشفا للقاضي عياض 2/ 932 بتحقيق علي محمد البجاوي.
4. المواهب اللدنية 2/ 683.
وذهب الشافعية: إلى أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعاً لا نزاع في ذلك، والمرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه بما قال به الشافعية (2).
وإلى هذا ذهب الحنابلة أيضاً (3).
أدلة هذا الحكم:
وقد استدلوا على ذلك بالآيات الكريمة.
قال تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} .
(4)
واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل عقوبته.
قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل (5).
وقال تعالى:
{وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(6).
وقال تعالى:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ ۚ}
(7)
______________________
1. المواهب اللدنية 2/ 685.
2. الشفا للقاضي عياض 2/ 933.
3. الكافي لابن قدامة 4/ 156، والمكتب الإسلامي.
4. سورة الأحزاب، الآية (57).
5. الشفا 2/ 944.
6. سورة التوبة، الآية (61)
7. سورة التوبة، الآيتان (65-66).
قال القاضي عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه (1).
ولعل الذي دفع المالكية إلى القول بعدم قبول توبته. هو أن الذي يصدر منه سب أو انتقاص للرسول ﷺ، إنما يصدر عن سوء طوية استقرت في عقله الباطن، وما السب والتعريض إلا صدى لما في النفس، وهذا الأمر لا يجتمع مع الإيمان، ولذا اختلف الحكم فيه عن الذي ارتد عن الإسلام لعارض شبهة وما أشبه ذلك.
وهناك دليل عام على استحقاق المنتقص القتل. هو: أن الله – كما رأينا في الباب السابق – قد نص على تكريم رسوله ﷺ بطرق متنوعة قد وردت كلها بنصوص قرآنية، فكأن هذا الساب قد قصد مخالفة ما أمر الله تعالى به، وذهب في مخالفة أوامره سبحانه وتعالى.
وهناك أدلة كثيرة من السنة محلها كتب الفقه.
حكم من سمع السب والإيذاء:
ونتساءل عن حكم إنسان كان في مجلس فسمع فيه شتم النبي صلى الله عليه وسلم، فما هو التصرف الذي ينبغي عليه أن يفعله.
وهذا يدخل حكمه في إطار إنكار المنكر وتغييره بحسب إمكاناته وقدرته، وبالترتيب الذي نص عليه الحديث: باليد ثم باللسان، ثم بالقلب. وحينما يكون في الصنف الثالث الذي ينكر بقلبه فعليه أن يترك المجلس استنكاراً لما سمع وذلك أضعف الإيمان.
قال تعالى:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِۦٓ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا}
(2)
______________________
1. المواهب اللدنية 2/ 685.
2. سورة النساء، الآية (140).
قال ابن كثير: أي إنكم إذا رضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى:
{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ }.
وجاء في ظلال القرآن عند هذه الآية الكريمة:
“وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى، يسمي ذلك تسامحاً، أو يسميه دهاء، أو يسيمه سعة صدر وأفق، وإيماناً بحرية الرأي، وهي هي الهزيمة الداخلية، تدب في أوصاله، وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبساً بالضعف والهوان.
إن الحمية لله، ولدين الله، ولآيات الله، هي آية الإيمان، وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد، وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار، وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمداً، ثم تهمد، ثم تخمد، ثم تموت”.
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله، فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة، وهو المعبر بين الإيمان والكفر، على قنطرة النفاق. .
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن:
{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ}.
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد:
{إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله.. وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة – إذ ذاك-..” ا هـ.
وما جاء في الآية ينطبق على قضية الجلوس في مجلس يساء فيه إلى الرسول ﷺ فمن لم يكن قادراً على الرد وإحقاق الحق بعزة الإيمان وحمية المؤمن فلا أقل من أن يترك المجلس استنكاراً لما سمع.
وأختم هذا الباب. وقد قصدت فيه إلى أمرين:
1- بيان حكم من سب النبي ﷺ أو عرض به..
2- بيان أن السب أو التعريض لا يمكن أن يصدر عن مسلم، وإنما يصدر عن نفس عمرها النفاق، والنفاق قرين الكفر.