وفي الموسم الذي أراد الله فيه للدعوة أن تتبين الطريق إلى قاعدة الانطلاق، إلى المكان الذي يأزر الإيمان إليه، كان الرسول ﷺ جاهداً ينتقل من جماعة إلى أخرى ومن قوم إلى آخرين يعرض أمره ويدعو إلى الله، ويطلب النصرة لتبليغ أوامره. .
ووقف على جماعة من هذه الجماعات عند العقبة.
قال: (من أنتم؟)
قالوا: نفر من الخزرج.
قال: (أمن موالي يهود).
قالوا: نعم.
قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟)
قالوا: بلى.
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن (1). .
كانوا معه بكليتهم سمعاً ووعياً وفهماً. . ولما قطع شوطاً من حديثه شردت بهم الذاكرة إلى يثرب. . إن اليهود كانوا يحدثونهم عن نبي منتظر قد أظل أوانه، وكانوا يتوعدونهم به، وأنهم سوف يتبعونه ويقتلونه قتل عاد وإرم. .
كان الرسول الكريم يتكلم، وكان القوم يقابلون بين أوصافه التي كانوا يسمعونها من يهود وبين الحديث الذي يسمعون. .
فقال بعضهم لبعض: والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. . ولبوا دعوة الإيمان بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام. وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا إلى بلادهم، وكانوا ستة نفر، منهم أسعد بن زرارة، فلما قدموا إلى المدينة حدثوا قومهم حديثهم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى أصبح في كل بيت ذكر لرسول الله ﷺ.
وتابع ﷺ جهاده في سبيل دعوته، فإسلام هؤلاء النفر، لئن كان فيه شعاع من امل، فإنه لا يمكن أن يتوقف العمل انتظاراً لهذا الأمل. فاستمر يقف على الناس في موسمهم ذاك، ويدعو إلى الله، وقريش ما تزال على عنادهم وصدها عن سبيل الله.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 428. وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر وجابر بن عبدالله بن رئاب.