×

علي رضي الله عنه

وآلت الخلافة إلى علي رضي الله عنه. .

فكانت سيرته مثل سيرة من سبقه.

عن عبدالله بن رزين قال: دخلت على علي بن أبي طالب – قال حسن: يوم الأضحى – فقرب إلينا خزيرة (1)، فقلنا: أصلحك الله لو أطعمتنا من هذا البط – يعني الأوز – فإن الله قد أكثر الخير. .!! (2).

وقال أبو عبيد: حدثنا عباد بن العوام عن مروان بن عتيرة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق، وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيباً في هذا المال، وأنت ترعد من البرد؟! فقال: إني – والله – لا أزراً من مالكم شيئاً. وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي – أو قال: المدينة – (3).

وعن ابن عباس قال: اشترى علي قميصاً بثلاثة دراهم وهو خليفة (4).

وإذا كان عمر رضي الله عنه قد علل لنا سلوكه في التزام الفقر بالتأسي بالرسول الكريم ﷺ، فإن علي بن أبي طالب يلفت نظرنا إلى جانب من الحكمة في هذا المسلك.

“فقد التزم عاصم بن زباد البعد عن الدنيا والزهد فيها، مما أخزن أهله وولده، فعاتبه علي في ذلك.

فقال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن، وأكل الجشب “الرديء”؟

قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يشنع على الفقير فقر..” (5).

______________________

1. الخزيرة:  – كما في “القاموس” – شبه عصيدة بلحم عصيدة أو مرقة من بلال النخالة. ا هـ والمقصود هنا: طعام متواضع. .

2. “البداية والنهاية” لابن كثير (8/ 3).

3. المصدر السابق (8/ 3).

4. المصدر السابق (8/ 3).

5.عن كتاب “مع الله” للأستاذ محمد الغزالي (455) تحت عنوان “قل من حرم زينة الله”.


كم هو عزاء جميل للفقير أن يعيش في مستوى رئيس الدولة طعاماً ولباساً. . وكم هو عظيم أن يشارك رئيس الدولة الفقير فقره طواعية واختياراً، وعندئذ لن يكون المال مبجلاً، ولن يكون الأغنياء طبقة متميزة تتعالى على الناس بجاهها ونفوذها. .

إنها المواساة العملية التي تخفف عن الفقير آلام الفقر، وتبعد عن نفسه الشعور بالهوان، مما يدفعه إلى الجد والعمل وهو مرتاح النفس، قوي العزم.

وبهذا يحقق الإسلام الأمن الاجتماعي. فلا يقف فقر الفقير عثرة في طريقه، يحول بينه وبين ما يريد، فالأبواب مفتوحة للجميع في كل المجالات يشرف على تنظيمها خليفة خاف الله تعالى وراقبه، وفقدت الدنيا رصيدها في نفسه، فانعدمت شهواته إليها، وبات حراً طليقاً من أسرها. . ولهذا فلن تكون نظرته للناس من خلال انتفاخ جيوبهم.

هذا الفقه في التزام الفقر وَعَتهُ الخلافة الراشدة، فطبقته تأسياً وابتاعاً، وحصدت نتائجه أمة الإسلام عدالة وازدهاراً، وبات المعلم الأول من معالم استقامة المسؤول عن تدبير شؤون الأمة، وسمة على الرشد لمن ولي هذا المنصب.

وما نعتقد أن ديناً غير الإسلام يستطيع أن يحقق ذلك.

وقد يظن بعضهم أن الارتقاء إلى هذه القمة السامقة خاصة بتلاميذ محمد ﷺ، أولئك الذين تربوا على يديه، وهم الذين تتابعوا على منصب الخلافة الراشدة بعده. . وأنه من الصعب تحقيق هذا السمو في وقت آخر، وفي أشخاص أناس آخرين؟!

 وقد فاتهم أن الرسالة الخالدة إنما جاءت لتقرر منهجاً دائماً، لا يختص بجيل من الأجيال، وأن قدرته على العطاء مستمرة، كلما توفرت له الشروط المطلوبة.

ومن هذه الشروط، ما نحن بصدد الحديث عنه ألا وهو “التزام الفقر” من قبل رئيس الأمة وأميرها، الأمر الذي التزم به الخلفاء الراشدون تأسياً به ﷺ.

هذا وقد سجل التاريخ عطاء المنهج المرة بعد المرة. .

 إن التاريخ كان على موعد في نهاية القرن الأول الهجري مع الخليفة الراشد الخامس، عمر بن عبدالعزيز. . فما هي الخطوة الأولى التي وضعته على الطريق الصحيح؟ إنها الخروج من الأعطيات التي منحت له من الخلفاء قبله.

 قال إسماعيل بن أبي الحكم: سمعت منادي عمر بن عبدالعزيز ينادي الصلاة جامعة، قال: فجئت المسجد فإذا عمر على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

 أما بعد: فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها، وما كان ينبغي لهم أن يعطوها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، إني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي. اقرأ يا مزاحم. .

فجعل مزاحم يقرأ كتاباً كتاباً، ثم يأخذه عمر وبيده الجلم (1) فيقطعه، حتى نودي بالظهر (2).

 ثم دخل على زوجته فاطمة بنت عبدالملك فخيرها بين أن تقيم معه على أسلوب من الحياة خشن، أو تلحق بأهلها، فآثرت البقاء معه. . (3). ومن أجل هذا البقاء تنازلت عن جواهرها وحليها التي أهداها لها

______________________

1. الجلم: المقص.

2. “حلية الأولياء” للحافظ الأصبهاني (5/ 355).

3. “البداية والنهاية” (9/ 198)، و “سيرة عمر بن عبدالعزيز” لسيد الأهل (ص 101) نقلاً عن “سيرة ابن عبدالحكم” (ص 60).



أبوها، والتي لم ير مثلها. . لتستقر في بيت مال المسلمين. . (1).

وسارت حياة عمر المعاشية على الأسلوب الذي عهدناه من الخلفاء الراشدين.

 صلى يوماً الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين: إن الله قد أعطاك، فلو لبست فنكس ملياً، ثم رفع رأسه فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة (2).

 وعن نعيم بن سلامة قال: دخلت على عمر بن عبدالعزيز فوجدته يأكل توماً مسلوقاً بزيت وملح (3).

وكان أكثر طعامه العدس.

 وعن مسلمة بن عبدالملك قال: دخلت على عمر بن عبدالعزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبدالملك: يا فاطمة، اغسلي قميص أمير المؤمنين، قالت: نفعل إن شاء الله، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة: يا فاطمة، ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه؟ قالت: والله ما له قميص غيره (4).

 ومع التزامه بالفقر في ذات نفسه وفي أهل بيته، فإنه كان يوسع على عماله في النفقة. وكان يتأول: أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين. . فقالوا له يوماً: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك؟ فقال: لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم (5).

إنه فقه الإسلام. .

______________________


1. “حلية الأولياء” (5/ 283).

2. “حلية الأولياء” (5/ 261).

3. المصدر السابق (5/ 315).

4. المصدر السابق (5/ 258).

5. “البداية والنهاية” (9/ 202).


وبهذا يستطيع المسؤول في الأمة أن يفطم كل ذوي الأطماع من قرابته ومن غيرهم أن تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم به حق. . وعندها تستقيم الأمور ويقوم العدل في الناس.

ويستمر العطاء. . وحيثما وجدت مراكز الإشعاع الإسلامي. . فثمة التزام بسيرته ﷺ في بيت القيادة.

ونطالع في القرن السادس الهجري سيرة نور الدين محمود زنكي. . فنجد:

كان مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله، في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقى منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا (1).

 وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له، يحصل له منها في السنة نحو العشرين ديناراً، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين، لا أخونهم ولا أخوض نار جهنم لأجلك (2). .

 وفي أواخر القرن السادس أيضاً نقرأ سيرة صلاح الدين. .

وكان متقلاً في ملبسه ومأكله ومركبه. . ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك (3).

______________________

1. “البداية والنهاية” (12/ 278).

2. “الكامل لابن الأثير” (9/ 125).

3. “البداية والنهاية” (13/ 5).


وبنى له أتباعه مرة منزلاً انيقاً في دمشق، فلم يكترث به ولم ينظر إليه طويلاً، بل قال: ما كنا لنجلس في هذا المكان إلى الأبد، فهذا المنزل لا يصلح لمن يطلب الموت. وما نحن هنا إلا لنقوم بخدمة الله سبحانه (1).

وحين توفي لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد، ولم يترك داراً ولا عقاراً، ولا مزرعة ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأموال (2).

تلك هي ثمرة تأسى بيوت القيادة في الأمة به ﷺ في بيته ومعيشته، وكلما أراد الله لهذه الأمة النهوض والتقدم هيأ لها إماماً مصلحاً، يعرف أن التأسي به ﷺ في بيته ومعيشته هو الطريق لإعادة سيرة الخلافة الراشدة لهذه الأمة (3).

______________________

1. “صلاح الدين الأيوبي” لعبدالله علوان ط 3 ص (178).

2. “البداية والنهاية” (13/ 4).

3. بعض هذا الفصل عن كتاب “هكذا فهم الصحابة” للمؤلف.

 

مواضيع ذات صلة