استقر رسول الله ﷺ في المدينة بعد هجرته، يحيط به المؤمنون من المهاجرين والأنصار. كما يرقبه – بحذر – المشركون من الأوس والخزرج الذين لم يفتحوا قلوبهم لهدى الله يشاركهم في ذلك اليهود ممن كان يسكن المدينة.
وخلت مكة من المؤمنين إلا من حبس ومنع من الهجرة. وأطلق المشركون أيديهم في أموال المسلمين المهاجرين. الذين منعتهم ظروف الهجرة خفية من اصطحابها. . فغدوا بعد ذلك فقراء، وعلى الرغم من البذل السخي الذي قدمه الأنصار لهم، فإن عزة نفوسهم كانت تمنعهم من مد أيديهم إلا في النادر القليل وفي إطار دفع الحاجات الآنية الملحة.
ونزلت آيات الإذن بالقتال فكانت أيذاناً بأعداد العدة لتعلو راية الحق وتكون كلمة الذين كفروا السفلى، ولطالما تطلع المؤمنون من المهاجرين إلى هذا الإذن، فقد أصيبوا في أنفسهم وأموالهم، وما زالوا يذكرون صلف وطغيان العلية من قريش يؤيدهم أتباعهم ممن باعوا أنفسهم للشيطان. .
وبدأ ﷺ يعقد الألوية ويبعث السرايا بل ويقود الغزوات بنفسه، وتتابعت هذه البعوث حتى كانت غزوة بدر الكبرى.
1- ففي شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة عقد ﷺ اللواء لعمه حمزة بن عبد المطلب وبعثه في ثلاثين رجلاً – من المهاجرين خاصة – يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام فيها أبو جهل، فالتقى الفريقان على ساحل البحر، فاصطفوا للقتال فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين فلم يقتتلوا.
2- وفي شهر شوال من السنة الأولى بعث ﷺ عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في ستين رجلاً – من المهاجرين خاصة – فلقي أبا سفيان. فكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف وانصرف الفريقان دون قتال.
وفي هذا اللقاء فرَّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني وعتبة بن غزوان، وكانا مسلمين، خرجا بغية الالتحاق بالمسلمين وقد تم لهما ذلك (1).
3- وفي شهر ذي القعدة من السنة الأولى بعث ﷺ سعد بن أبي وقاص إلى الخرار (2) من أرض الحجاز من أرض الحجاز ومعه عشرين رجلاً يعترضون عيراً لقريش. . . فلم يدركوها وكان أمره ﷺ لسعد أن لا يجاوز الخرار.
4- وفي شهر صفر من السنة الثانية خرج ﷺ في أول غزوة غزاها يريد عيراً لقريس فوصل إلى ودان أو الأبواء – وهما قريتان متقاربتان في وادي الفرع (3) – وكان خروجه في ستين راكباً من المهاجرين. فلم يدرك العير، وعقد مصالحة مع بني ضمرة.
_______________________
(1) ابن هشام 1/ 592.
(2) هو وادي الجحفة وغدير خم يقع شرق رابغ على قرابة (25) كيلا [معجم المعالم الجغرافية].
(3) ولذا يسمى بعضهم هذه العزوة الأبواء ويسميها بعضهم غزوة ودان وهو من أودية الحجاز يمر على 150 كيلا جنوب المدينة المدينة المنورة [معجم المعالم الجغرافية].
5- وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية خرج ﷺ في مائتي رجل من المهاجرين يريد عيراً لقريش فيها أمية بن خلف، وبلغ بواطاً فوجد العير قد فاتته ولم يلق كيداً.
6- ثم خرج – في الشهر نفسه – في طلب كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح (1) المدينة فاستاقه. فخرج في أثره حتى وصل وادي سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فرجع إلى المدينة، وتسمى هذه الغزوة: بدراً الأولى.
7- ثم خرج ﷺ في جمادى الأولى من السنة الثانية في مائة وخمسين من الهاجرين يعترضون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام (2). فبلغ العشيرة من ناحية ينبع. فوجد العير قد فاتته، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليال من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم.
8- سرية عبد الله بن جحش:
وفي شهر رجب من السنة الثانية بعث ﷺ عبد الله بن جحش ومعه ثمانية من المهاجرين وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا وأمره أن لا يكره أحداً من أصحابه على المسير معه بعد قراءة الكتاب. ولما وصل المكان فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد قريشاً وتعلم لنا أخبارها. فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعة وأخبر أصحابه فلم يتخلف منهم أحد، وساروا حتى نزلوا بنخلة فمرت بهم عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي فقتلوه وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وأفلت منهم نوفل بن عبد الله. وقدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة. فأنكر رسول الله ﷺ ما فعلوا. خاصة وأن ذلك حدث في آخر يوم من رجب مما أتاح لقريش أن تجد مقالاً. . . فقالوا: إن محمداً قد أحل الشهر الحرام.
_______________________
(1) ما يسرح به من النعم.
(2) وهي العير التي خرجوا لها يوم بدر لما جاءت عائدة من الشام.
وسقط في أيدي عبدالله وصحبه حين أنكر الرسول صلى الله عليه وفعلهم. وعنفهم إخوانهم من المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله ﷺ. ثم نزل قوله تعالى:
{يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُوا}
(1)
فكان فيه الفرج لعبد الله وصحبه. وفدت قريش أسيرها.
ولا بد بعد استعراض هذه الوقائع التي سبقت غزوة بدر من وقفة يسيرة:
1- يلاحظ في جميع هذه الغزوات والسرايا عدم اشتراك الأنصار فيها واقتصارها على المهاجرين. وقد يكون ذلك – وهو الأغلب – التزاماً بالبيعة التي نصت على أن يمنع الأنصار الرسول ﷺ في ديارهم لا أن يخرج بهم، وقد يكون إعلاماً لقريش بأن الذي كان يمنع المسلمين من مقاومتهم هو التزامهم بأوامر الله حيث لم يشرع القتال. . وذلك هو جوابه ﷺ كلما سئل عن ذلك (لم أومر بالقتال).
2- تتابع هذه الأحداث، فالغزوات والسرايا كانت متلاحقة لم تتوقف إلا في موسم الحج للسنة الأولى للهجرة. . حتى كانت غزوة بدر وفي هذا: إشعار قريش بأنها لم تعد آمنة مطمئنة في رحلاتها وتنقل تجارتها، والتضييق عليها حتى تشعر بنتائج سلوكها.
ثم هو إشعار لمشركي الأوس والخزرج ويهود المدينة بقوة المسلمين حتى لا تسول لهم نفوسهم محاولة الإساءة إليهم.
3- ثم هي استطلاع مستمر لما يجري حول المدينة، وذلك ضرورة أمنية لا بد منها.
_______________________
(1) سورة البقرة: الآية 217.
4- كما نلاحظ أنها كلها موجهة ضد قريش. فهي العقبة الكؤود في وجه انتشار هذا الدين. كما أن لها الزعامة الدينية في الجزيرة، ولذا فهي العدو البارز على المسرح يومئذ، فكان من الضروري إشعارها بالقوة الناشئة بقيادة الرسول ﷺ.
5- كما نلاحظ في سرية عبد الله بن جحش بعض الإجراءات التي تتطلبها المهمة.
وهي مهمة استطلاعية وينبغي أن تكون قائمة على السرية. ولذا كانت المهمة ضمن كتاب النبي ﷺ الذي لم يفتح إلا بعد ليلتين من المسير بعيداً عن المدينة حتى لا يعلم أحد أين الاتجاه.
كما أنها أول عملية توغل قريباً من مكة مركز الوثنية. ولذا فهي عملية فدائية (1) ينبغي أن تقوم على الرغبة من المشتركين وطواعيتهم. ولذا أمر عبد الله أن لا يكره أحداً من أصحابه.
وهكذا بدأت الخطط العسكرية والتدابير القتالية تبدو واضحة في هذه السرايا التي اعتبرت نواة العمليات العسكرية الكبرى فيما بعد.
_______________________
(1) وقد كان هذا المعنى واضحاً في ذاكرة عبد الله حينما قال لأصحابه بعد فتح الكتاب: قد نهاني رسول الله ﷺ أن استكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق. ومن كره ذلك فليرجع. . فمضى ومضوا معه لم يتخلف منهم أحد (البداية 3/ 249).