القائمة الرئيسية

آيات وردت في التشريف بمقام العبودية لله تعالى

إن ما سبق في الحديث عن تكريم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو تكريم لعبد من عباد الله، اختصه الله تعالى بهذا الفضل، وهو بشر من البشر، كما تقرر ذلك واضحاً في آيات من القرآن الكريم، وقد سجلت هذه الحقيقة بعيداً عن كل لبس.

ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف:

{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا}.

وقوله تعالى في سورة فصلت:

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

وقد كان هذا كافياً لتقرير هذه الحقيقة، ولكن الله تعالى أكدها في آيات أخرى كثيرة، مع تأكيد معنى التكريم والتخصيص بالفضل. ومن ذلك:

قال تعالى: 

{سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ}

(1).

فالعبد هنا: هو محمد صلى الله عليه وسلم، والإضافة “بعبده” للتشريف إذا كل الناس عباد لله.

وأي تشريف أعظم من هذا.

وإذا علمنا أن الآية الكريمة تتحدث عن معجزة الإسراء والمعراج التي كانت تكريماً له صلى الله عليه وسلم علمنا أن اختيار هذا اللفظ “عبده” يعني أنه أشرف الأوصاف لأنه ورد في مقام بيان التكريم الذي خصه به دون سائر الأنبياء والرسل.

هذا الحدث الذي يبدأ الحديث عنه: بتمجيد الله تعالى نفسه، وتعظيم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه. فلا إله غيره ولا رب سواه.. وما ذاك إلا ليري عبده الآيات الكبرى.

قال سيد قطب – رحمه الله -:

“وتذكر صفة العبودية 

{أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ} 

لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر، وذلك كي لا ننسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام، بسبب ما لابس مولده ووفاته..”.

كانت الآية الكريمة السابقة تسجيلاً للرحلة العظيمة عند ابتدائها، حيث كان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

 وتأتي آيات سورة النجم لتنقل لنا جانباً آخر من هذه الرحلة، ولكنه من الملأ الأعلى، حيث سدرة المنتهى.

______________________

1. سورة الإسراء، الآية (1).


ولنستمع إلى الآيات الكريمة في خشوع وتدبر:

{وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍۢ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلْأُفُقِ ٱلْأَعْلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ  فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ  عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰٓ}

(1).

تتحدث الآيات الكريمة عن جبريل عليه السلام حين تبدى للرسول ﷺ في صورته التي جبل عليها حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء وذلك في مبدأ الوحي فسد الأفق بخلقه الهائل، ثم دنا فاقترب منه فكان على بعد ما بين القوسين أو أدنى.

ثم رأى رسول الله ﷺ جبريل على تلك الصورة في حادثة المعراج عندما كان ﷺ عند سدرة المنتهى.

ووصوله صلى الله عليه وسلم إلى حيث سدرة المنتهى، بل إلى حيث توقف جبريل وتابع ﷺ مسيره.. تكريم وأي تكريم.

 ومع ذلك جاء النص القرآني بصفة العبودية لتكون الصفة المختارة خلال الحديث عن هذا التكريم العظيم فقال تعالى: 

{فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ} 

أي أوحى جبريل إلى عبدالله  محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى.

ومرة أخرى تكون الصفة، صفة العبودية مضافة إضافة التشريف والتكريم.

______________________

1. سورة النجم، الآيات (1- 15).


وليس من قبيل المصادفة أن تكون هذه الصفة هي المختارة للآية الأولى من سورة الكهف حيث قال تعالى:

{ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُۥ عِوَجَا ۜ }

(1).

إنه حدث آخر عظيم، إنه إنزال الكتاب العظيم على محمد عبدالله ورسوله ﷺ ولعظمة الموضوع يبدأ الله تعالى بحمد ذاته المقدسة على ذلك، إنه الكتاب الذي أنعم الله به على أهل الأرض ليخرجهم به من الظلمات إلى النور.

 إنها الأحداث العظيمة:

الإسراء.

والمعراج.

وإنزال الكتاب.

تُختار له هذه الصفة “عبده” من بين كل الصفات، ألا يدل ذلك على أنها من صفات التشريف والتكريم؟! بلى إنها كذلك.

ويدخل تحت هذا العنوان لهذا الفصل آيات خوطب بها ﷺ من خلال صفة العبودية، واستشكلها بعضهم، منها على سبيل المثال.

قوله تعالى: 

{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}

(1).

______________________

1. سورة عبس، الآيات (1-11).


والقصة التي تشير إليها هذه الآيات، كما قال ابن كثير: “ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله ﷺ كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه، إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول الله ﷺ عن شيء ويلح عليه، وود النبي ﷺ أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعاً ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فنزلت”.

والآية الكريمة وصف للنبي ﷺ في تلك الساعة، من الناحية الظاهرة التي تتعلق بوجهه ومن الناحية النفسية.

وقد جاءت الصورة الحسية بصيغة الغائب ثم تحول الأسلوب إلى الخطاب بعد ذلك. وهذا من التلطف بالعتاب إذ لم يواجهه به مواجهة.

والرسول ﷺ اجتهد في هذه القضية، ولكن التوجيه الإلهي جاء بغير اجتهاده وكان توجيهاً له في المستقبل.

وبمقدار ما تحمل هذه الآيات من عتاب للنبي ﷺ بمقدار ما تبين رفعة الدعوة وكرامتها وعظمتها، واستغناءها عن كل أحد، وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كما يقول سيد قطب رحمه الله.

ويقول القاضي عياض – رحمه الله -: ليس في الآيات إثبات ذنب له، بل إعلام الله له أن ذلك المتصدى له ممن لا يتزكى (1).

ومما استشكل قوله تعالى: 

{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ ٱلْكَٰذِبِينَ}

(2).

هذه الآية وغيرها في سورة التوبة وردت في فضح المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك.

______________________

1. المواهب اللدنية للقسطلاني، تحقيق صالح الشامي 3/ 254.


2. سورة التوبة، الآية (43).


قال مجاهد – كما عند ابن كثير -: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله ﷺ فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. ولهذا قال تعالى: 

{حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا}.

هذه هي قصة هذه الآية وموضوع سبب نزولها.

فرأى بعضهم أن هذا غاية في اللطف في المعاتبة. كما نقل سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة (1).

ورأى عمرو بن ميمون: أن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توفيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيماً عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله إلا عرفت حقي. فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التبجيل والتعظيم، وليس “عفا” هنا بمعنى: غفر، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: 

(عَفَا الله لَكُم عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ)

(2).

رأينا أقوال العلماء في هاتين الآيتين، والحقيقة أنه ليس هناك ما يستشكل، فالرسول ﷺ لم يرتكب ذنباً، ولم يأت بمعصية، فهو لم يترك أمراً، ولم يأت منهياً عنه، وإنما هو الاجتهاد في وقائع لم يسبق فيها أمر ولا نهي. وهي محل للصواب والخطأ، والرسول صلى الله عليه وسلم – بشر- يخطئ ويصيب في اجتهاده، وللمخطئ هنا أجر وللمصيب أجران. وإنما جاء العتاب في أنه لم يحرز الأجرين وهو أهل لذلك.

 وإذن فهذه الوقائع حدثت بتقدير من الله تعالى لتأكيد صفة العبودية في ذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم وهذا كما سبق في أول الفصل تكريم له لونه الخاص.

______________________

1. تفسير ابن كثير.


2. المواهب اللدنية 4/ 256.

مواضيع ذات صلة