القائمة الرئيسية

أخذ الطعام والشراب من مالكهما

قال الإمام النووي:

“و – للنبي ﷺ – أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويفدي بمهجته مهجة رسول الله ﷺ، قال الله تعالى: 

{ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ } 

(1).

______________________

1. سورة الأحزاب الآية (6).


قلت – أي الإمام النووي -: ومثله ما ذكره الفوراني وإبراهيم المروذي وغيرهما: أنه لو قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه ﷺ” (1).

وقد تناقلت هذا النص كتب الخصائص (2).

وجاء في كتاب “مطالب أولي النهى”:

“وجعل صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم لقوله تعالى: 

{ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ }.

 ويلزم كل أحد أحد أن يقيه بنفسه وماله، وله طلب ذلك حتى من المحتاج، ويفدي بمهجته مهجته ﷺ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

 ومثله لو قصده ظالم: فعلى من حضره أن يبذل نفسه دونه” (3).

والإمام النووي إنما يقرر المذهب بقوله. وقد عزا الخيضري النص نفسه إلى الرافعي (4).

 أقول: ما من شك أن من واجب المسلمين أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم وكل ما يملكون.. دون رسول الله ﷺ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه..

 وقد فعل جيل الصحابة الذي عايش الرسول ﷺ كل ذلك، وكتب السيرة مليئة بالشواهد على ذلك مما يشهد لهذا الجيل الفريد بالخيرية المطلقة على بقية الأجيال.

______________________


1. روضة الطالبين، للإمام النووي 7/ 8.


2. انظر: (غاية السول ص 175)، و (المواهب اللدنية 2/ 614)، و (مرشد المحتار ص 234).


3. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5/ 38.


4. اللفظ المكرم 1/ 359.

 


والمسلمون كلهم على اختلاف أزمانهم على قدم الصحابة في هذا الأمر من احترام الرسول ﷺ وفدائه بأنفسهم وأموالهم، والشواهد على ذلك كثيرة أيضاً.

ولكن عرض المسألة بهذا الأسلوب يتنافى مع المنهج الأخلاقي الذي جاء به الرسول ﷺ.

ولو قيل هذا الكلام بحق غيره لكان منقصة ومذمة.

تصور معي إنساناً معه طعام وشراب وهو محتاج إليه بحيث لو أخذا منه لأدى ذلك إلى موته، فجاء إنسان آخر في مثل حالة الأول وليس معه طعام ولا شراب، فلم يجد بداً من أخذ ما مع الأول من طعام وشراب للإبقاء على حياة نفسه، وترك الأول يموت جوعاً وعطشاً.

 فما هو حكم فعل الرجل الثاني في نظر الأخلاق ونظر الفقه.

هذه هي الخصوصية التي نتحدث عنها في هذه المسألة.

 لا شك بأن فعل الرجل الثاني غير مقبول في لغة الفقهاء، ولا في لغة الأخلاق فكيف يكون خصوصية للرسول ﷺ؟!.

لا شك بأن الرجل الأول لو بذل للثاني ما معه لكان ذلك فضيلة أخلاقية رفيعة لهذا الرجل تعبر عن الإيثار في أعلى درجاته، كما جاء ذلك في وصف الصحابة في وقوله تعالى: 

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ }

(1).

 أما الأمر المعترض عليه في هذه المسألة، فهو أن يكون الرسول ﷺ في مقام الرجل الثاني في المثال المذكور.

______________________


1. سورة الحشر، الآية (6).


إن هذا الأمر غير متخيل منه حدوثه ﷺ لتعارضه مع ما عرف عنه من الأخلاق الرفيعة التي نص عليها القرآن الكريم بقوله تعالى: 

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ}

(1).

 فهو الذي يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق.. كما قالت السيدة خديجة رضي الله عنها.

 وهو الذي كان يسير في الرجوع من الغزوات والسفر في آخر القوم، يعين الضعيف ويساعد أصحاب الحاجات. .

 فهو صلى الله عليه وسلم دائماً وفي وقت الأزمات في موقف العطاء، لا في موقف الأخذ. ودائماً يده العليا.

 وإذا كانت الصدقات عليه محرمة، وهي إنما تحل في وقت الحاجة، فكيف نتج لخيالنا أن نقبل للرسول ﷺ صورة الغاصب؟!! في وقت الحاجة

 إن هذه الخاصية المتخيلة، بعيدة كل البعد عن ذات الرسول الكريمة ﷺ ويتمنى الإنسان المسلم، لو استطاع محوها من هذه الكتب لما فيها من إساءة للرسول ﷺ وتشويه لصورته. .

 أما ما استدل به أصحاب هذا الرأي، من قوله تعالى: 

{ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ }

[الأحزاب : 6]. 

فهو استدلال في عكس ما جاءت به الآية الكريمة. فهم استدلوا بها على أن الرسول ﷺ له بهذه الآية أن يقدم نفسه عليهم في حرمانهم مما يحتاجون إليه ليلبي به حاجة نفسه.

 ولم يفهم أحد من المفسرين هذا الفهم.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة:

______________________


1. سورة القلم، الآية (4).


“قد علم الله تعالى شفقة رسوله ﷺعلى أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.

 وقال البخاري عند هذه الآية.. 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ)

(1)” (2).

 هذا ما قاله ابن كثير. وواضح من كلامه ومن الحديث الذي استشهد به أن الرسول ﷺ أولى بالمؤمنين من أنفسهم في تحمل الغرم عنهم، ومساعدتهم في وقت الشدة. أما في أوقات رفاههم واستغنائهم وعدم حاجتهم.. فإن ذلك يعود إلى ذوي قراباتهم (3).

 وإذن ليس في الآية ما يدل على ما ذهبوا إليه.

 ونتساءل: كيف قبل الفقهاء مثل هذا التصور، ثم جعلوه من الخصوصيات؟

 والجواب: إن الفقهاء رحمهم الله، في المسائل الفرعية، كثيراً ما تسيطر عليهم القواعد الفقهية القائمة على القياس والنظير في الحكم، بعيداً عن النظام الأخلاقي العام، وهذا الاتجاه جعلهم يقسمون الأحكام في كثير من الأحيان، فيقولون: قضاءً، وديانة.

______________________


1. أخرجه البخاري برقم (2399).


2. تفسير ابن كثير عند الآية المذكورة.


3. وفي هذا المعنى قال عنترة:

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك             إن كنت جاهلة بما لم تعلم

يخبرك من شهد الوقيعة أنني              أغشى الوغي وأعف عند المغنم

فهذه قيم جاهلية “أغشى الوغي” فأكون في موقف العطاء والبذل في المقدمة، فإذا جاء توزيع المغنم كنت بعيداً عنه.

هذا المعنى هو بعض ما جاء في حديث البخاري: (فأيما مؤمن ترك مالاً..) أفيكون هذا المعنى الرفيع عن الجاهليين، ولا يكون عند الرسول ﷺ حسب هذه المسألة؟!

فالحكم القضائي: هو الذي وقف عند النص دون مراعاة للجانب الباطن في المسألة. .

 وفي مسألتنا هذه: رأوا أن حياته ﷺ مقدمة على حياة بقية الناس، ولذا كان له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من الوسائل ما يحافظ عليها، حتى ولو كان في ذلك تلف بعض الأنفس. فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. فبقاؤه ﷺ مصلحة عامة للمسلمين، وبقاء فرد من المسلمين. مصلحة خاصة لذلك الفرد ومن يلوذ به.

 وهو منطق مقبول بشكل عام، ولكنه في هذه المسألة يعارض ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من أخلاق. وكان على الذين بحثوا في هذه المسألة أن يراعوا هذا الجانب، وهو جانب أصيل في حياته ﷺ.

وأمر آخر أدى إلى الخطأ في هذه المسألة. وهو أسلوب عرضها.

كان عليهم أن يعرضوها من جانب التزام المؤمنين.

فلو قالوا: على المسلمين أن يبذلوا للرسول ﷺ ما هو بحاجة إليه، حتى ولو كانوا هم بحاجة إليه، فذلك من لوازم الحب للرسول ﷺ.

 ولو فعلوا ذلك. لكان هو الصواب الذي لا خلاف عليه، فما من مسلم يماري في هذه القضية.

 وأخيراً، فإن هذه المسألة مسألة متخيلة، لا صلة لها بالواقع، والأصل في الخصائص أن تكون وقائع قائمة. وأن يكون لها من النصوص ما يثبتها.

وليست المسألة التي بين أيدينا مما يتوفر فيه هذان الشرطان.

 قال ابن طولون بعد أن ذكر المسألة والأقوال فيها: وقد شعر بفداحة الخطب:

 “والصواب عندي ترك التوسع في مثل ذلك، إذ لا طائل تحته، ولم أجد في الأحاديث النبوية ما يدل على هذه الخصوصية. وقد استدلوا لها بقوله تعالى: 

{ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ } 

والاستدالال بذلك ليس صريحاً لكنه على وجه اللزوم.. قال ابن عطية: هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة.. (1).

______________________


1. مرشد المحتار ص 235 – 236.

مواضيع ذات صلة