1- نسبة محمد ﷺ القرآن لله لا تكون احتيالاً منه لبسط نفوذه، وإلا لم لم ينسب أقواله إلى الله (1):
“ولم أننا افترضناه افتراضاً لما عرفناه له تعليلاً معقولاً ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئاً واحداً قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن “نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي”، ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم، ونفاذ أمره فيهم، لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه.
وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه، أما أنه فاسد في ذاته، فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عند الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبة ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئاً، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئاً، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتها في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.
وأما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول غلى غاية
____________
(1) شبهات حول القرآن وتفنيدها، د. غازي عناية (ص 21)
إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أعبد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا:
{قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُۥ عَلَيْكُمْ وَلَآ أَدْرَٰكُم بِهِۦ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِۦٓ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[يونس: 16] (1).
وقد قدمنا أن النبي ﷺ شهد بصدقه الصديق والعدو، وشهد بصدقه من عاشره ومن رآه لأول وهلة، ومن سمع به وبأخباره.
ونزيد على ما سبق شهادة أكبر المعاندين في قريش، ورأس الكفر، وفرعون هذه الأمة أبو جهل؛ فعن علي رضي الله عنه أن أبا جهل قال للنبي ﷺ: إنا لا نكذبك بما جئت به، فأنزل الله تعالى
{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ}
[الأنعام: 33] (2).
____________
(1) النبأ العظيم (ص 17- 20)
(2) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: من سورة الأنعام، رقم (3064)، من طريقين الأول مرفوع عن علي رضي الله عنه والثاني مرسل عن ناجية بن كعب، ويتقوى بعضها ببعض لا سيما أن السيوطي في الدر المنثور (3/ 264) ذكر أن عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه أخرجه عن أبي ميسرة أيضاً.
2- ينكرون نزول الوحي على النبي ﷺ عن طريق جبريل عليه السلام وهم يسلمون بنزول:
لما يستبعد المستشرقون إمكانية نزول الوحي على النبي ﷺ عن طريق جبريل، مع أن كثيراً منهم يسلمون بأبعد من ذلك؛ فهم يؤمنون إيماناً كاملاً بأن موسى عليه السلام قد تلقى التوراة من الله تعالى مباشرة من غير واسطة.
3- تناقض المتهمين للنبي ﷺ بتأليف القرآن:
وانظر إلى ما هذا التناقض؛ تارة يصفون النبي ﷺ بأنه عبقري، وفنان موهوب، ملهم (1) استطاع بذكائه الشديد أن يصنع هذا الدين والقرآن وتارة يقولون هو مجنون، أو مصروع، أو مهووس (2)؛ ألا ترى كيف أوقعهم بغضهم للحق في هذه التناقضات المضحكات؟
وتأمل كيف استطاعت خديجة رضي الله عنها بفطرتها البسيطة أن تعرف أن ما يأتي النبي ﷺ ليس شيطاناً وجنوناً ولا هوساً حين قالت: “كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” (3) .
فما أبعد هذا الكمال الإنساني عن الهوس الذي قد يملي على صاحبه مواقف غريبة وأفعالاً منكرة ينبو عنها الذوق السليم، لذلك فإن بعضهم لا يملك نفسه عندما يقرأ سيرة النبي ﷺ وما يأمر به إلا أن يسلم بنبوته.
يقول توماس كارلايل (4): “هل رأيتم قط رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً.
____________
(1) انظر: القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص28).
(2) انظر: كتاب رؤية إسلامية للاستشراق، لأحمد غراب، (ص15)، وانظر: القرآن والمستشرقون، لنقرة (ص 29).
(3) متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الوحي، باب: بدء الوحي، رقم (4)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم (160)).
(4) تقدمت ترجمته.
عجيباً؟ إنه لا يقدر أن يبي بيتاً من الطوب، فهو لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه بيت إنما هو تل من الأنقاض، وكثيب من أخلاط المواد؛ وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً، يسكنه مائتا مليون من الأنفس (1)، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن، وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة، وإلا أبت أن تجيبه طلبته، كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيلوه حقاً، ومحنة أن ينخدع الناس – شعوباً وأمماً – بهذه الأضاليل” (2).
ويقول أيضاً: “لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر، أن يصغي إلى القول: إن دين الإسلام كذب، وإن محمداً خداع مزور، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل، وما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لمئات الملايين من الناس أمثالنا، خلقهم الله خلقنا، أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاشت بها وماتت عليها هذه الملايين فائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذه الرأى أبداً، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول، فما الناس إذا إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث؛ كان الأولى ألا تخلق” (3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعداد المسلمين جاوز المليار، ولكن هذا العالم يتحدث عن علمه ووقته حيث إنه ولد سنة 1795م.
(2) قالوا عن الإسلام (ص 123).
(3) انظر: القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة (ص25).
4- أوقات نزوله:
14- من الأدلة على أن القرآن ليس من النبي ﷺ: أوقات نزوله (1)؛ فليس للنبي ﷺ اختيار فيما ينزل أو متى ينزل، فقد يأتيه وهو في الفراش مع أهله، أو وهو نائم، أو مع أصحابه، أو وهو سائر، أو على البعير (2)، وقد يتتابع الوحي ويحمي حتى يشعر بكثرته عليه، وقد يفتر عنه حتى يشتاق إليه، بل قد يمرض من تأخره عليه؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه الله تعالى تابع على رسوله ﷺ الوحي قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثم توفي رسول الله ﷺ بعد (3).
وعن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول الله ﷺ كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر رسول الله ﷺ. . الحديث، وفيه: فقال لفاطمة: “لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في توب امرأة إلا عائشة. .” الحديث (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص 54).
(2) انظر: فتح الباري (1/ 30) فقد ذكر أن عند البيهقي حديث: “وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها الأرض من ثفل ما يوحي إليه”.
(3) متفق عليه (البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي، رقم (4982)، ومسلم: كتاب التفسير، رقم (3016).
(4) البخاري، كتاب الهدية وفضلها والتحريض عليها، باب: من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه، رقم (2581).
وعن أنس قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1-3] ثُمَّ قَالَ: “أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ. . ”
(1)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِجِبْرِيلَ: “أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا” قَالَ: فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الْآيَةَ
(2) [مريم: 64].
وعن جندب بن سفيان: أبطأ جبريل على النبي ﷺ، فاشتكى رسول الله ﷺ فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله عز وجل:
{وَٱلضُّحَىٰ وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ}
[الضحى: 1- 3] (3).
فهذه أربعة عشر دليلاً على أن القرآن ليس من النبي ﷺ، وبعضها كاف في ذلك، ولكني جمعتها كلها حتى لا يكون للمعترض حجة، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: حجة من قال البسملة آية من كل سورة، رقم (400).
(2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، رقم (3218).
(3) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ}، رقم (4950)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي ﷺ، رقم (1797)، وأحمد، رقم (18329)، واللفظ لأحمد.