كان ﷺ بعد وفاة خديجة رضي الله عنها بحاجة إلى امرأة تسد بعض مكانها في رعاية بناته، والتخفيف عنه في بعض ما يصيبه من أذى المشركين، هذا الأذى الذي اشتدت وتيرته بعد موت عمه وزوجه.
وكان المسلمون يحسون بمعاناته ﷺ ويتمنون لو هيأ الله تعالى له من تقوم بهذا الدور من رعاية بنت النبوة، وتخفيف بعض آلام عداوة قريش..
ولعل هذا الشعور هو الذي دفع خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون إلى الدخول على رسول الله ﷺ فتحادثه بهذا الأمر.
قالت خولة: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ أفلا أخطب عليك؟
قال: (بلى، فإنكن – معشر النساء – أرفق بذلك).
قالت: إن أردت بكراً، وإن أردت ثيباً، أما البكر، فابنة أحب الخلق إليك عائشة، وأما الثيب، فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك؟
قال: (اذهبي فاذكريهما علي (1)).
وسودة: هي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية، تزوجها السكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، وقد أسلمت هي وزجها، وهاجرا إلى الحبشة الهجرة الثانية، ثم عاد إلى مكة مع من عاد من المهاجرين، وتوفي زوجها بعد العودة.
وتمت الخطوبة ثم الزواج، وانتقلت إلى بيت النبي ﷺ.
ومرت الأيام. . وهاجر النبي ﷺ إلى المدينة ونزل ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده وحجرتين له، وأثناء ذلك بعث زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وأمه أم أيمن. . وخرج عبدالله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان. . (2).
فلما كمل بناء المسجد والغرفتين انتقلت سودة إلى إحدى هاتين الغرفتين التي أعدت لتكون مسكناً لها.
ومن مواقفها التي اعتذرت عنها، موقفها يوم بدر.
تقول سودة: إني لعند آل عفراء إذ قيل لنا: هؤلاء الأسارى قد أُتي بهم.
______________________
1. “المواهب اللدنية” وعليها “شرح الزرقاني” (3/ 228)، وفي “الإصابة” عند ترجمتها.
2. “سيرة خير العباد” للإمام ابن القيم (ص 67) نشره المكتب الإسلامي.
قالت: فرجعت إلى بيتي، ورسول الله ﷺ فيه، وإذا سهيل بن عمرو في ناحية كم الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.
قالت: فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيته كذلك، أن قلت: أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً.
فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله ﷺ من البيت: (يا سودة، أعلى الله ورسوله تحرضين؟).
قالت: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت (1).
وكأنها لما رأت أخا زوجها السابق في الأسر، وهو ذل وهوان، لم ترض له هذه الحالة، وتمنت لو بذل المزيد من المقاومة ولو أدى ذلك إلى الموت بدل الأسر.
ويبدو أنها كانت من المفاجأة قد ذهلت على من كانت حربهم، نسيت أن حربهم كانت ضد رسول الله ﷺ، فقالت ما قالت. فلما نبهها رسول الله ﷺ اعتذرت بأنها لم تملك نفسها. .
إنه موروث من موروثات الجاهلية – بأن العربي لا يقبل الذل – قد طفى على السطح في لحظة من اللحظات، تضخمت فيها الصورة التي أمامها وما فيه سهيل بن عمرو بعيداً عن الملابسات التي أدت به إلى ذلك. .
فاعتذرت من الرسول ﷺ، ولعله ﷺ قبل عذرها.
ولما أسنت سودة خافت أن يطلقها النبي ﷺ، وطلبت منه أن يبقيها في جملة أزواجه، ووهبت يومها لعائشة، “فكان النبي ﷺ يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة” (2).
______________________
1. “السيرة النبوية” لابن هشام (1/ 645).
2. رواه البخاري (5212)، ومسلم (1463).
والحقيقة أن هذا كان مجرد شعور منها وخوف ربما سيطر عليها، ولم يكن لذلك ما يبرره.
وكانت تُضحك النبي ﷺ بعض الأحيان، فقد قالت له يوماً: صليت خلفك الليلة، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر دماً، فضحك النبي ﷺ (1).
وكانت شديدة الاتباع لأمره ﷺ، فقد روى الإمام أحمد
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِنِسَائِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ)
أي ثم الزمن البيوت فلا تخرجن إلى الحج مرة أخرى. فكنى النبي ﷺ بظهور الحصر عن ملازمتهن البيوت.
قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة فقالتا: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك منه ﷺ (2).
وقالت عائشة رضي الله عنها:
“مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا (3) مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ” (4) إلا أنها كانت تسرع منها الفيئة (5).
وعن ابن سيرين: أن عمر رضي الله عنه بعث إلى سودة بغرارة من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارة مثل التمر؟! ففرقتها (6).
وكانت مدة حياتها مع النبي ﷺ – منفردة به – قرابة خمس سنوات، ثلاث منها في مكة، وثنتين في المدينة.
______________________
1. “الإصابة” عند ترجمتها.
2. “الفتح الرباني” للبنا (22/ 108).
3. مسلاخها: أي هديها وطريقتها.
4. رواه مسلم (1463).
5. هذه الجملة زيادة عند أبي يعلى: كما في “الفتح الرباني” (22/ 108).
6. “شرح الزرقاني على المواهب” (3/ 229).
وقد اختلف في تاريخ وفاتها، وجزم الذهبي بأنها ماتت في آخر خلافة عمر رضي الله عنه، وروت عنه ﷺ خمسة أحاديث، في البخاري منها حديث واحد.
رحم الله أم المؤمنين سودة ورضي عنها.