القائمة الرئيسية

أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشة بنت الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا

عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ولدت في الإسلام، وكانت تقول أم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين (2)، وأمها أم رومان، أسلمت قديماً، وهاجرت وتوفيت سنة ست من الهجرة.

رأينا عند الحديث عن سودة كيف قال النبي ﷺ لخولة بنت حكيم: (اذكريهما علي) يعني سودة وعائشة.

وجاء في تتمة الحديث عند الإمام أحمد: قالت خولة: فدخلت بيت أبي بكر، فقلت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قال: وما ذاك؟ قلت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه؟ فرجعت إلى رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، قال: ارجعي إلي فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فرجعت فذكرت له ذلك، قال: انتظري، وخرج.

______________________

1. “شرح الزرقاني” (3/ 229).

2. رواه البخاري (3905).



قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعداً قط فأخلفه، فدخل على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت: يا ابن أبي قحافة، لعلك مصبي صاحبنا في دينك الذي أنت عليه إن تزوجت إليك؟ فقال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقول هذه؟ يقول: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ﷺ (1).

وتم العقد. . وبعد الهجرة وفي شهر شوال ثم الزواج.

وتصف لنا السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يوم الزواج فتقول: “تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لَأُنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (2).

هذا ما جاء في قصة العقد والزواج، وللناس – من أعداء الإسلام – كلام بشأن هذا الزواج، فالرسول ﷺ كان في الثالثة والخمسين من عمره، وكانت هي في التاسعة، والذين يتكلمون في هذا الشأن بعيدون كل البُعد عن البيئة العربية يومئذ وعن أعرافها.

 فقد رأينا كيف عرضت خولة عائشة على النبي ﷺ.

ورأينا كيف أن المطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه.

ورأينا كيف أن أم رومان وأبا بكر لم يستنكرا طلب خولة لعائشة، ولم يقولا: إنها صغيرة.

______________________


1. “البداية والنهاية” 3/ 131.

2. رواه البخاري (3894)، ومسلم (1422).


فالزواج من الصغيرات كان أمراً متعارفاً عليه. .

أما فارق السن، وكون ﷺ في الثالثة والخمسين. . وأننا عندما نذكر هذا الرقم يتبادر إلى الذهب الشيب والضعف، ونفسية أصابتها الشيخوخة. .

فهنا لا بد من القول: بأن مرور الأعوام وإن كان هو المقياس لأعمار الناس، فليس هو المقياس بالنسبة لحيوية الإنسان ونشاطه، وقدرته على المبادرة والعمل، فقد نجد إنساناً في الثلاثين، ولكنه يحمل بين جنبيه نفسية ابن الخمسين، وقد نجد – بعض الأحيان – إنساناً في الخمسين، ولكنه في حيويته ونشاطه ابن ثلاثين.

وشخصيته ﷺ فريدة في هذا الميدان، فهو – وهو في الخمسين – كان رجلاً في عنفوان شابه همة وعزماً ومضاء ورجولة. . وكل حوادث السيرة تتحدث عن ذلك.

1- فإنه ﷺ لما عرض نفسه على القبائل مر على بني عامر بن صعصعة، وعرض عليهم أمره، فقال بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب (1).

فقد وصفه بـ”الفتى” وهو الشاب في مقتبل العمر، وقال “لأكلت به العرب” وهي كلمة تعبر عما شاهده بيحرة من الحيوية المتدفقة والنشاط الفياض، وكان يومها في الخمسين من العمر.

2- وجاء في خبر الهجرة: إنه ﷺ أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي ﷺ شاب لا يعرف (2).

 ويلاحظ من النص بوضوح أن أبا بكر كان يبدو في سنة الحقيقي شيخاً، بينما كان النبي ﷺ يبدو شاباً، لعدم ظهور الشيب فيه.

______________________


1. “سيرة ابن هشام” (1/ 424).

2. “شرح الزرقاني على المواهب” (1/ 355).


3- وسأل العلا بن زياد أنس بن مالك فقال: يا أبا حمزة، بسن أي الرجال يوم قبضه الله إليه؟ قال: كأشب الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه (1). وقال: توفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء (2).

إنه مظهر الشباب، لا مرية في ذلك، وأما الهمة، فما عرفت البشرية مثل همته، ويكفي أن نذكر أنه بدأ عمليات الكفاح المسلح وقيادة الجيوش. . بعد زواجه من عائشة رضي الله عنها.

4- وفي حادثة التخيير: أن عمر دخل على رسول الله ﷺ في غرفة يصعد إليها بدرجات، وجاء في حديثه: “ثم نزل نبي الله ﷺ ونزلت، فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله ﷺ كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده” (3).

وهذا ما يبين شباب النبي ﷺ، علماً بأنه أكبر من عمر بأربعة عشر عاماً. . فعمر ينزل متمسكاً بالجذع وينزل ﷺ كأنما يمشي على الأرض.

وقد أضاف ﷺ مراعاته لصغر سنها، فكان يتعامل معها من ذلك الواقع، فها هو يسابقها مرة فتسبقه، ويسابقها مرة أخرى فيسبقها فيقول: (هذه بتلك) (4).

 وها هي تقول: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ (5) مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي (6).

______________________


1. “البداية والنهاية” (4/ 327) من رواية للإمام أحمد.

2. رواه البخاري (5900)، ومسلم (2347).

3. رواه مسلم (1479).

4. رواه أبو داود (2578)، وابن ماجة (1979).

5. يتقمعن: أي يتغيبن حياء وهيبة منه.

6. رواه البخاري (6130)، ومسلم (2440).


وقد استمر هذا إلى وقت متأخر نسبياً، فعند قدومه ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر، كشف ناحية الستر على بنات لعائشة  فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟) قَالَتْ: بَنَاتِي وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا مربوطاً لَهُ جَنَاحَانِ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) قلت: فرس، قال: (فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ) قَُلت: أَلم تَسْمَع أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ خَيْل لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ فَضَحِكَ (1).

وفي الحديث المتفق عليه: أن الحبشة كانوا يلعبون بحرابهم في ساحة المسجد.. تقول السيدة عائشة: رأيت النبي ﷺ يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون  أنا التي أسأم. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو (2).

وهكذا كان ﷺ يتعامل معها مراعياً سنها.

 وفي قولها: “فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ” تعقيباً على نظرها للعب الحبشة، تأكيد لمراعاته ﷺ لهذا الشأن. وطلب من الأزواج أن يراعوا وضع زوجاتهم الصغيرات. الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أن الزواج من الصغيرات كان أمراً مألوفاً متعارفاً عليه.

وإذن فليس هناك ما ينتقد عليه ﷺ وبخاصة إذا كان قد شرع بسلوكه كيفية التعامل في مثل هذه الحال.

وخلاصة ما سبق: أن المجتمع الذي كان فيه رسول الله ﷺ كان يقر أمر الزواج من الصغيرات، وأنه ﷺ جرى على هذا العرف، وأضفى عليه من سلوكه وحكمته ما يتناسب مع ذلك مما يجعله أمراً مقبولاً.

ولكن فريقاً من الفقهاء يمثلهم الإمام ابن شبرمة (3)، لا يرى هذا الرأي، بل يرى أن زواجه ﷺ من عائشة بهذه السن يعد خصوصية من خصوصياته، شأنه شأن الزيادة على أربع زوجات وغير ذلك من الخصائص.

______________________

1. رواه أبو داود (4932).

2. رواه البخاري (5236)، ومسلم (892/ 18).

3. هو فقيه الكوفة، عبدالله بن شبرمة الضبي القاضي، روى عن أنس والتابعين. قال أحمد العجلي: كان عفيفاً صارماً، عاقلاً يشبه النساك، شاعراً جواداً، توفي سنة أربع وأربعين ومائة للهجرة “شذرات الذهب”.


قال الإمام ابن حجر: “أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى عنه ابن حزم المنع مطلقاً، فليس للأب أن يزوج بنته البكر الصغيرة، إلا إذا بلغت وأذنت، وزعم أن تزويج النبي ﷺ عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه” (1).

وما ذهب إليه ابن شبرمة – وإن كان مخالفاً للجمهور – له من الأدلة ما يجعله من القوة بحيث يعارض به رأي الجمهور، ومن هذه الأدلة”

1- إن غاية عقد النكاح، وهو إقامة الحياة الزوجية بين الزوجين، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه بالنسبة للصغيرة.

كما أنه ﷺ أمر الولي باستئذان البنت البكر في زواجها، في نصوص كثيرة تعد من أصح الأحاديث.

فما لم يتوفر البلوغ والإذن فإن العقد غير صحيح.

2- ومما يؤكد خصوصية زواج عائشة، ما أخرجه الشيخان عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: 

قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ (2) مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَقُلْتُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ). وفي رواية للبخاري: (أرَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ). وفي رواية لمسلم: (أَريْتُكِ فِي الْمَنَامِ ثلاث ليال. .) (3).

ورؤيا الأنبياء نوع من الوحي، فكان عقد هذا الزواج تنفيذاً لما جاء به الوحي.

______________________


1. “فتح الباري” (9/ 190).

2. سرقة: هي القطعة من الحرير الأبيض.

3. رواه البخاري (3895، 5125)، مسلم (2438).



3- وهذا ما يفسر لنا عقد الزواج في وقت مبكر قبل الزواج بثلاث سنين.

4- ورد الجمهور قول الخصوصية بقوله تعالى:

{وَٱلَّٰٓـِٔى يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشْهُرٍۢ وَٱلَّٰٓـِٔى لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَٰتُ ٱلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مِنْ أَمْرِهِۦ يُسْرًا}

[الطلاق].

فالآية تتحدث عن عدة النساء في حال الطلاق، فذكرت أولاً اللاتي يئسن من المحيض، ثم ذكرت اللاتي لم يحضن، وقالت بأن عدتهن ثلاثة أشهر.

وفسروا قوله: 

{وَٱلَّٰٓـِٔى لَمْ يَحِضْنَ ۚ } 

بالصغيرات اللواتي لم يبلغن سن الحيض.

وقالوا: إذا كانت الآية تتحدث عن عدة الطلاق لهن، فإن الطلاق لا يكون إلا بعد الزواج. وهكذا يتقرر زواج الصغيرات بهذه الآية خلافاً لما ذهب إليه ابن شبرمة.

والجواب عن هذا: أن الآية الكريمة ليست نصاً في الموضوع فهي تتحدث عن اللواتي لم يحضن. وقد ذكر كثير من الفقهاء أن بعض النساء لا يحضن أصلاً، ولم يذكروا ذلك إلا عن واقع مشاهد (1)، والآية الكريمة تتحدث عن هذا الفريق من النساء، فهي نص فيه واحتمال بشأن الصغيرات.

______________________


1. لقد تأكدت من قول الفقهاء هذا بنفسي، فسألت عدداً من الأطباء عن هذا الامر – وهو وجود من لا تحيض من النساء – وقد أخبرني أحدهم، وهو ممن أثق به: أن امرأته تعمل مدرسة في إحدى ثانويات البنات، وأن لها زميلتين في التدريس، إحداهما في الخامسة والعشرين، والثانية في الخامسة والثلاثين، وأنهما حتى هذه السن لم تأتهما الدورة الشهرية، وأن أخاً لإحداهن تزوج ولم ينجب، وأنهما لم تتزوجا لسبب واحد وهو أن الأهل كانوا يذكرون للخاطب هذا الأمر، فيرغب عن الزواج خوفاً من عدم الإنجاب.


5- إن نزول الوحي في بيت عائشة – باستثناء قليل – دون بقية بيوت النبي مؤشر على الحكمة من زواج عائشة، كما سوف نتحدث، والذي هو بأمر إلهي.

 إن هذه الأدلة وغيرها تجعل من رأي ابن شبرمة رأياً يستحق كثيراً من التأمل، وكثيراً من الإعجاب بهذا الإمام.

 كان لا بد من هذه الوقفة عند زواج السيدة عائشة، لتجلية الأمر وبيان ما قيل فيه.

ونعود إلى الحديث عنها، وإلقاء الضوء على بعض الجوانب في شخصها الكريم.

كانت رضي الله عنها متوقدة الذكاء، سريعة البديهة، ذات عقل راجح. .خفيفة الحركة، بليغة في لغتها، قادرة على التأثير على الغير. .

 لهذا كله وغيره كانت أحب نساء النبي إليه، ولم تكن هذه المكانة سراً بل كانت أمراً يعرفه الجميع.

 وقد سأل عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النبي صلى الله عليه فقال: 

يا رسول الله، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) فَقُلْتُ مِنْ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا) (1).

 وعمرو إنما كان يسأل عن الرجال ليعرف مكانته عند النبي صلى الله عليه، ولكن سؤاله كان عاماً، فجاء الجواب تبعاً للسؤال.

 ولقد بات هذا الحب لعائشة معروفاً من قبل الصحابة، فإذا كان عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى النبي ﷺ، انتظر حتى إذا كان في بيت عائشة بعث هديته إليه.

______________________

1. رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384).


 

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ قَالَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا) (1).

 يتكشف لنا من خلال هذا الحديث أسباب هذا الحب:

فالزواج منها إنما كان بوحي من الله تعالى، وبيتها كان مهبط الوحي..

على أن ذلك لم يكن ليؤثر على العدل الذي أقامه ﷺ بينهن.

 أما ما طلبته أم سلمة، من خطابه ﷺ الناس أن يهدوا إليه حيث كان، فهو طلب دفعت إليه الغيرة، ولم يكن ﷺ ليفعل ذلك، لأن هذا الأمر يجافي المروءة، إذ ليس من المعقول أن يطلب إلى الناس السلوك الذي ينبغي أن يفعلوه بهداياهم، وكأنه يذكرهم بفعل ذلك ويحثهم عليه.

إن ذكاءها أتاح لها أن تتبوأ مكانة علمية عالية بين الصحابة رضي الله عنهم، يضاف إلى ذلك كثرة نزول الوحي في بيتها، وسماعها لأسئلة النساء اللواتي يسألن النبي ﷺ عن عبادتهن وشؤونهن، وكذلك سماعها خطب النبي ﷺ ومصاحبتها له في معظم أسفاره.

إضافة إلى ما كانت تسأل عنه النبي صلى الله عليه من أحكام، وما كان يشكل عليها من فهم القرآن الكريم.

وكانت على معرفة بأسباب نزول الآيات، مناسبات ورود الأحاديث، الأمر الذي هيأ لها ملكة فقهية قل نظيرها.

______________________

1. رواه البخاري (3775).


ثم هي – باستثناء سودة – أطول نسائه صحبة له ﷺ، إذ تزوج بهن بعدها في فترات متقاربة.

وإن نظرة سريعة على إحصائية الأحاديث التي روتها، وما رواه غيرها من بقية أزواجه تبين لنا الدور الذي هيأها الله له.

فقد بلغ عدد أحاديثها التي روتها (2210) أحاديث، تليها في أم سلمة وعدد أحاديثها (378)، وميمونة (76) حديثاً، وأم حبيبة (65) حديثاً، وحفصة (60) حديثاً، وكل من جويرة وسودة (5) أحاديث، وزينب بنت جحش (9) أحاديث، وصفية (10) أحاديث (1).

ولو جمعنا أحاديث أمهات المؤمنين جميعاً لم تبلغ ثلث ما روته عائشة يضاف إلى ذلك فتاواها في شؤون المرأة وغير ذلك.

وقد جمعت إلى ذلك معرفة بالشعر والأنساب والطب، حتى كان عروة بن الزبير يتملكه العجب من إحاطتها بكل هذه العلوم، فيقول لها متعجباً: إني لأتفكر في أمرك فأعجب، أجدك أفقه الناس، فقلت: ما يمنعها؟! زوجة رسول الله وابنة أبي بكر، وأجدك عالمة بأيام العرب وأنسابها وأشعارها، فقلت: وما يمنعها، أبوها علامة قريش، ولكن إنما أعجب أن وجدتك عالمة بالطب، فمن أين؟

 وتجيبه رضي الله عنها فتقول: يا عرية – تصغير عروة – أن رسول الله ﷺ كان يسقم عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنت اعالجها له، فتعلمت ذلك (2).

 هكذا بقيت مرجعاً في العلم والفتوى قرابة نصف قرن، لا يشكل أمر، إلا ويكون عندها من العلم ما يحل ذلك الإشكال.

______________________

1. “السيرة النبوية الصحيحة” للعمري (2/ 649).

2. رواه أحمد “الفتح الرباني” للبنا (22/ 124).


 قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا – أصحاب رسول الله ﷺ – حديث، قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً (1).

 وقال مسروق: والله لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألون عائشة عن الفرائض (2).

وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة (3).

 كانت قادرة على الإجابة على أسئلة لم يكن غيرها قادراً على الإجابة عليها، وذلك بسبب قربها منه ﷺ، قال الأسود: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنه كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه، وقد كنت مسندته إلى صدري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه (4)؟

وهكذا فهي تقف على أرض ثابتة في إجابتها، فقد مرض رسول الله ﷺ في بيتها، ومات بين يديها (5).

وأما كرمها وسخاؤها، فلا يوازيه إلا علمها، فإنه ما كانت تمسك شيئاً.

أخرج ابن سعد من طريق أم درة قالت: أُتيت عائشة بمائة ألف فرقتها وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه؟ قالت: لو كنت أذكرتني لفعلت (6).

______________________

1. رواه الترمذي (3838).

2. “مجمع الزوائد” (9/ 242) قال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

3. “شرح الزرقاني على المواهب” (3/ 234) عن الحاكم وغيره.

4. رواه البخاري (2741)، ومسلم (1636)، ومعنى “انخنث”: مال وسقط.

5. أكد ذلك ابن عباس بحديث عن البخاري (5669)، ومسلم (1637) أنه ﷺ لم يكتب شيئاً ولم يوص.

6. “الإصابة” عند ترجمتها.


وهكذا نسيت نفسها ووزعت مائة ألف وليس عندها ما تفطر عليه.

قال عروة : كانت عائشة لا تمسك شيئاً، فما جاءها من رزق الله تصدقت به (1).

وباعت يوماً داراً لها وتصدقت بثمنها، فلما بلغ ذلك عبدالله بن الزبير قال: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فلما بلغها قوله قالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً.

فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله! لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث في نذري.

فلما طال ذلك، احتال حتى دخل عليها بمعية المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود. ثم دخل عليها الحجاب فاعتنقها وطفق يبكي ويناشدها، وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها. . فلما أكثروا عليها، طفقت تبكي وتقول: إني نذرت، والنذر شديد. .

فلم يزالا حتى كلمته، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. . وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها (2).

وفضائل عائشة رضي الله عنها أكثر من أن تحصى الأمر الذي يصعب معه في مثل هذه المساحة المحدودة الإتيان على بعضه.

قال أَنَسٍ بِنْ مَالك رضي الله عنه: سَمِعت رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يقول: (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) (3).

______________________

1. “فتح الباري” (10/ 493).

2. رواه البخاري (6073).


3. رواه البخاري (3770)، ومسلم (2446).


وقال لها النبي ﷺ في يوم من الأيام: (يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام) فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد النبي ﷺ (1).

عاشت رضي الله عنها حياة مليئة بالفضائل.

ولما مرضت اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ وَعِنْدَهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ وَهُوَ مِنْ خَيْرِ بَنِيكِ.

فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أخاف أن يزكيني.

فَقَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فَقِيهٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَأْذَنِي لَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْكِ وَلْيُوَدِّعْكِ.

قَالَتْ: فَأْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ قَالَ فَأَذِنَ لَهُ.

فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ: وَقَالَ: كيف تجدينك؟

قالت: بخير إن اتقيتُ.

قال: فأنت بخير إن شاء الله، أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْكِ كُلُّ أَذًى وَنَصَبٍ أَوْ قَالَ وَصَبٍ وَتَلْقَيْ الْأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ أَوْ قَالَ أَصْحَابَهُ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ، فَقَالَتْ كُنْتِ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا وَهُوَ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ بِالْأَبْوَاءِ فَاحْتَبَسَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمَنْزِلِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي ابْتِغَائِهَا أَوْ قَالَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَصْبَحَ الْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الْآيَةَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً فِي سَبَبِكِ فَوَاللَّهِ إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ.

فَقَالَتْ: دَعْنِي يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَا فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.

وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بعده – وَقَدْ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ – فقالت : دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا (2).

______________________

1. رواه البخاري (3217)، ومسلم (2447).

2. رواه أحمد “الفتح الرباني” (22/ 126)، وبعضه عند البخاري (4753).


وَقَالت لَه: لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ – تعني الرسول ﷺ وأبا بكر وعمر – وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا (1).

وهذا من تواضعها رضي الله عنها:

وهو شبيه بموقفها يوم الإفك حين نزلت الآيات بتبرئتها، حيث قالت: “وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بوحي يُتْلَى وَلَكِن كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا”.

قال ابن القيم رحمه الله: وتأمل هذا التشريف والتكريم الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها (2).

 توفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، ودفنت من ليلتها بعد صلاة الوتر، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه. . ودفنت بالبقيع كما أوصت رحمها الله تعالى ورضي عنها وأجزل لها المتوبة.

 وبعد: فإن التأمل لزواج الرسول ﷺ من عائشة يدرك الحكمة الجليلة التي كانت وراءه، فقد تم في مطلع الحياة في المدينة، أي مع بداية مرحلة التشريع من حياته ﷺ، إذ كانت حياته في مكة مرحلة لبناء العقيدة وتربية السلوك.

 والرسول ﷺ هو القدوة في كل جوانب الحياة، ومما لا شك فيه أنه ﷺ قضى جزءاً كبيراً من حياته في بيته ومع أسرته، وكان لا بد من نقل سلوكه هذا إلى الناس حتى يتأسوا به ويسيروا على هدي خطاه.

______________________

1. رواه البخاري (1391).

2. “جلاء الأفهام” (ص 483) تحقيق محيي الدين مستو.


وكانت هذه المهمة منوطة بالسيدة عائشة رضي الله عنها بما وهبها الله من ذكاء وفهم. . واستطاعت أن تؤدي هذه المهمة على خير ما يرام، وإن نظرة متفحصة لأي كتاب من كتب السنة لتؤكد ذلك.

 هذا ما يؤيد رأي ابن شبرمة من أن زواجها كان خصوصية من خصوصياته ﷺ، لأنه لو انتظرها حتى تكون في الخامسة عشر أو في السادسة عشر، لكانت مضت معظم سنوات حياته ﷺ في المدينة، وبهذا تذهب حكمة الزواج منها.

 ويؤكد هذا الخصوصية تزويجه ﷺ فاطمة من علي رضي الله عنها بعد أن اعتذر من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والذي سوف يأتي الحديث عنه عند الحديث عن فاطمة رضي الله عنها.

مواضيع ذات صلة