قد ينكر بعض الناس الدليل السابق (إخباره بالغيب) زعماً أن هذا قد يحصل بإدراك المقدمات أو المفراسة أو معرفة السنن الكونية أو قراءة التاريخ أو بأخبار سرية أو بالحدس أو الاستعانة بالجن ليخبروه عما غاب عنه.
فنقول: لقد أخبر النبي ﷺ بكثير من الأمور قبل حصولها، أو حتى حصول مقدماتها، وهذا لا يتأتى من بني البشر (1).
فالغيب بيننا وبينه حجاب كثيف، ولا ينخرق هذا الحجاب إلا بوحي من السماء.
نعم؛ قد يستشرف الإنسان المستقبل ويستقرئه عن طريق مقدمات ودلائل يلتمس مها النفوذ إلى حجاب المستقبل، كما يفعل الساسة والاقتصاديون وغيرهم، ولكنه في الغالب لا يكون صواباً، والصواب منه إنما حصل بسبب حصول مقدماته القريبة، كرجل مر على بيت قديم متهاو، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. فإننا نقول: قد يتحقق كلامه في وقت قريب أو بعيد باعتبار هذه المقدمات الواقعة. وأما لو مر على بيت جديد محكم البناء، وقد بني على أحدث الطرائق الهندسية بإشراف مهندسين ومتخصصين وخبراء، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. لقلنا: هذه ترهات وسفاهات لا تصدر من عاقل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: كتاب “تثبيت دلائل النبوة” للقاضي عبد الجبار الهمذاني (2/ 314)، حققه د. عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، وهو كتاب حافل مليء بالفوائد، لا سيما الأدلة العقلية على نبوة النبي ﷺ، لأنه من مدرسة المعتزلة العقلية.
لذلك إذا لم يكن هناك مقدمات وإشارات وقرائن، فلا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحصل في المستقبل، بل لا يمكن ان يعرف ماذا سيحصل بعد لحظة:
{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
[النمل: 65].
فمثلاً لو أن النبي ﷺ انتصر على العرب، ثم بشر بأنه سينتصر على العجم، لقلنا: إنما قال هذا لحصول مقدمات لهذا الحدث، وهو انتصاره على العرب، ولكن الأمر الغريب أن النبي ﷺ يبشر بهذه الأمور في ظروف هي أبعد ما تكون توقعاً لها.
فمن ذلك ما جاء عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا، فقال: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: ما لقي النبي وأصحابه بمكة، رقم (6943).
فـ”الدعوة المحمدية في مكة عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، رصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية وعلنية على قتلة أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشر أعوام شعاعاً ولو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث؛ فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربو في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً؟ وهبه امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه؛ فمن يتكفل له بعد موته بقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها، وكم من نبي قتل، وكم من كتاب فقد أو انتقص أو بدل، وهل كان محمد ﷺ ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أنه يكون نبياً يوحي إليه:
{وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓا أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَٰفِرِينَ}
[القصص: 86]
ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه:
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيْنَا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ فَضْلَهُۥ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}
[الإسراء: 86-87]
فلا بد من إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علماً بمجراها ومرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لم استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.
سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فاثخنوا فيهم القتل، واكرهوا أمماً منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدما المساجد؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعاً راياته وأعلامه، حافظاً آياته وأحكامه، بل أسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
[الأنفال: 36]،
وذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله
{هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ}
[التوبة: 33]
والله بالغ أمره ومتم نوره فظهر، ويسبقى ظاهراً، لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله” (1).
وتأمل ما حصل في حادثة الهجرة وهو مطارد من قريش، وليس معه إلا رجل واحد، والكل يتربص به ليقتله أو يسلمه ليأخذ الجائزة، ثم يقول لسراقة: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى” ثم يتحقق هذا الأمر ويلبسهما في زمن أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).
وعندما جاء رسول كسرى إلى النبي ﷺ ليتوعده ويتهدده قال له النبي ﷺ: “إن ربي قتل ربكما” فنظروا بكسرى مات في ذلك اليوم (3)، ومثل هذا ليس له مقدمات تدل عليه، ولم يكتب بعد في أي كتاب، ولكنها النبوة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص 38- 47).
(2) انظر: الإصابة، لابن حجر، في ترجمة سراقة رضي الله عنه (3/42).
(3) انظر: الخصائص الكبرى، للسيوطي (2/14)، باب: ما وقع عند كتابه إلى كسرى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.