القائمة الرئيسية

إذا رغب ﷺ في نكاح امرأة

جاء في كتاب روضة الطالبين:

ومن الخصائص: “أنه ﷺ لو رغب في نكاح امرأة، فإن كانت خلية (2) لزمها الإجابة على الصحيح، ويحرم على غيره خطبتها.

وإن كانت مزوجة، وجب على زوجها طلاقها لينكحها على الصحيح” (3).

وكان جاء في كتب الخصائص (4).

واكتفى صاحب مطالب أولي النهى بذكر المسألة الأولى، ولم يذكر المسألة الثانية (5).

وهذه الخصوصية تشتمل على مسألتين:

– رغبة النبي ﷺ في امرأة غير متزوجة.

______________________


2. الخلية: التي لا زوج لها، سواء سبق لها زواج أم لا.


3. روضة الطالبين 7/ 9.


4. انظر: (غاية السول ص 196)، و(مرشد المحتار ص 282)، و(المواهب اللدنية 2/ 617)، و(اللفظ المكرم 1/ 468).


5. مطالب أولي النهى 5/ 35.


– ورغبته في امرأة متزوجة.

وقد استدلوا للمسألة الأولى: بأن على المرأة الخلية الإجابة، لأنها إذا خالفت أمره كانت عاصية، وإن خالفت رغبته كانت غير راضية بقوله وفعله، وذلك عصيان عظيم يؤدي إلى الكفر، فتلزمها الإجابة وتخير.

واستدل لذلك الماوردي بعموم قوله تعالى: 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ}.

(1) (2)

وقبل المضي في سياق أدلة المسألة الثانية فإني أتوقف للنظر في أدلة المسألة الأولى.

إن سيرته ﷺ في أمر زواجه تخالف هذا الاستدلال.

فإن أم سلمة رضي الله عنها اعتذرت حين خطبها ثم رضيت بعد ذلك.

 وقد استشار جويرية بنت الحارث حينما جاءت تطلب مساعدته. فقال: (فهل لك في خير من ذلك).. فاستشارها في زواجه منها (3).

 وخطب النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمه أم هانئ بنت أبي طالب، فاعتذرت بأنها ذات أولاد، ولم تقبل (4).

 ثم إن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول ﷺ أن يخير نساءه، ليكون استمرارهن معه عن رضى منهن، فرضى من رغب بها ابتداء أولى.

______________________


1. سورة الأنفال: الآية (24).


2. مرشد المحتار ث 282.


3. أخرجه أبو داود برقم (3931).


4. الإصابة لابن حجر 4/ 287.


ثم إن أحاديثه الكثيرة التي تبين للناس شرعهم المطهر، تأمرهم بأخذ موافقة الزوجات قبل العقد. ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: 

أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ)

(1).

 ثم إن الذين وضعوا هذه المسألة المفترضة المتخيلة، والتي ألزموا فيها المرأة بالموافقة، رجعوا فقالوا: تلزمها الإجابة وتخير.

 فأقول: لو خيرت فاختارت عدم الزواج لعذر ما، هل تكون عاصية؟ وإذا كانت باختيارها ستكون عاصية، فما فائدة التحيير، إذا كانت برفضها على كلتا الحالتين، ستكون عاصية.

 إنه منطق عجيب في عالم الاحتمالات، منقطع عن الواقع.

 وأما الآية الكريمة، فهي نص عام جاء بشأن القتال، قال المفسرون:

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ} 

أي الجهاد والقتال.

 ثم إن المسألة قائمة على دعوى الخصوصية، فأين الدليل على ذلك؟!.

وننتقل إلى المسألة الثانية.

قال الغزالي: قالوا: إذا وقع بصره ﷺ على امرأة فوقعت منه موقعاً، وجب على الزوج تطليقها. لقصة زيد.

قال: ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه، بتكليف النزول عن أهله، ومن جانب النبي ﷺ ابتلاؤه بالبلية البشرية، ومنعه من خائنة الأعين، وعن الإضمار الذي يخالف الإظهار، ولا شيء أدعى إلى غض البصر من هذا التكليف (2).

______________________


1. متفق عليه (خ 5136، م 1419).


2. غاية السول ص 197، ومرشد المحتار ص 284.


وإن المسلم ليقف أمام هذه المسألة التي دونها الفقهاء في كتبهم، وأصلوها، وفتشوا لها عن الأدلة، فأتعبوا بها أنفسهم وأساؤوا.

 تخيل معي أن امرأة ذات زوج وأولاد، مرت من أمام النبي ﷺ، فأعجبته ووقعت من قلبه، فإن على الزوج المسكين وبكامل الرضى أن يطلق زوجته ويهدم أسرته، ليتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرأة.

 كذا قالوا – والله – في هذه المسألة؟!!

 ولو حذف شخص الرسول ﷺ من هذه المسألة، ثم رويت عن أي شخص كان، لوصف هذا الشخص بأشنع الأوصاف.

 وما ندري كيف أسف فكر هؤلاء الفقهاء الكبار – رحمهم الله – في هذه المسألة، فجاؤوا فيها بأمر عجاب، بل وجعل بعضهم يؤيدها بأدلة باطلة في جدل فقهي عقيم، ونسي بعضهم أنها مسألة تتعلق بالرسول ﷺ.

 نقل الإمام الغزالي عن فقهاء الشافعية أنهم استشهدوا لهذه المسألة بقصة زيد!!.

وما ندري ما علاقة قصة زيد بهذه المسألة؟.

 اللهم إلا إذا كان مرادهم القصة المكذوبة الملفقة الباطلة التي ترويها بعض كتب السيرة وبعض كتب التفسير. والتي ملخصها:

 إن الرسول ﷺ رأى زينب بنت جحش، زوجة زيد بن حارثة، فأحبها ووقعت في قلبه، فقال، فقال: سبحان مقلب القلوب، فسمعتها زينب، فأخبرت بها زيداً، فأراد أن يطلقها فقال له الرسول ﷺ: 

(أمسك عليك زوجك)، 

حتى نزل القرآن يعاتبه على إخفائه.

 ربما كان استدلال الفقهاء الذين أشار إليهم الغزالي بهذه القصة. وهي قصة باطلة.

ولا  بد أن نبين قصة زيد التي أشار إليها الغزالي باختصار شديد، حتى يظهر زيف ما استدلوا به:

 كان ذلك في العام الخامس من الهجرة وقبل أن يفرض الحجاب، حين خطب رسول الله ﷺ زينب ابنة عمته أميمة بنت عبدالمطلب لفتاه زيد بن حارثة، فترفعت عليه لشرف نسبها وجمالها، فأنزل الله تعالى: 

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ }

(1) 

فقالت: إذن لا أعصي الله ورسوله، وتم الزواج.

 واستمرت الزوجية أكثر من عام، وكانت زينب فيها حدة، فكان زيد يشكو ذلك إلى رسول الله ﷺ رغبة في الطلاق، فيقول له ﷺ: 

(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ).

 

وحدث أن أعلم الله نبيه ﷺ بأن زينب ستكون من أزواجه، وكان ذلك قبل استشارة زيد النبي ﷺ بالطلاق.

 ووقع الطلاق، وانتهت مدة العدة، وطلب النبي ﷺ من زيد أن يذهب إلى زينب ويخطبها له.. فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن وجاء رسول الله ﷺفدخل عليها بغير إذن.

 أما القرآن الذي نزل فهو قوله تعالى:

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا}

(2).

______________________


1. سورة الأحزاب، الآية (36).


2. سورة الأحزاب، الآية (37).



ومعنى:

{وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} 

هو ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته.

ومعنى: 

{وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ} 

تخشى أن يقول الناس تزوج محمد حليلة ابنه.

والتعليل القرآني لهذا الحدث واضح كل الوضوح في قوله تعالى: 

{لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ }.

تلك هي قصة زيد باختصار شديد (1).

فأين الدليل فيها على المسألة محل البحث، إنه لا دليل، فزيد لم يطلق زينب لأجل رؤية الرسول ﷺ لها، وإنما لعدم إمكان استمرار العيش بينهما لتعالي زينب على زيد.

 أما قولهم إنه ﷺ رآها فوقعت في قلبه، فهو كلام باطل، لأن الرسول ﷺ كان يراها قبل أن يزوجها لزيد، فلم يكن الحجاب مفروضاً يومئذ، وإنما فرض الحجاب ليلة زواج الرسول ﷺ من زينب. وهذا يبطل القصة المزعومة من أصلها.

 والقصة – محل البحث – مما اختلف فيه فقهاء الشافعية ولكن معظمهم على إقرارها، ولذا أوردها الإمام النووي مقرراً إياها دون أي تعقيب عليها، كما ذكرت في أول المسألة.

 وقد أبطل بعض الفقهاء هذه المسألة – مسألة أنه إذا رأى رسول الله امرأة متزوجة وأعجبته كان على زوجها أن يطلقها – ونفوها نفياً شديداً.

______________________


1. انظر تفصيل ذلك في كتاب “من معين السيرة” للمؤلف ص 303 – 311.


قال الإمام السبكي: “ولم يكن ﷺ تعجبه امرأة أحد من الناس، وقصة زينب إنما جعلها الله تعالى – كما في سورة الأحزاب – قطعاً لقول الناس: إن زيداً ابن محمد، وإبطالاً للتبني، قال: وبالجملة فهذا الموضع من منكرات كلامهم في الخصائص، وقد بالغوا في هذا الباب في مواضع، واقتحموا فيها عظائم، لقد كانوا في غنية عنها” (1).

 والرسول ﷺ أعظم من أن تخطر هذه المسألة على باله، فضلاً عن أن ينفذها في الواقع، فهو صاحب الخلق العظيم.

 وكم كنت أود أن لا أذكر مسائل هذا الفصل، حتى لا أقع في الخطأ الذي وقع فيه مخترعو هذه المسائل من نسبة ما لا ينبغي للرسول ﷺ، ولكن الذي دفعني إلى ذكرها هو تناقلها في كتب الفقه وكتب الخصائص، وكثيراً ما يكون ذكرها في هذه الكتب على أنها مسلمة. فكان لا بد من ذكرها لبيان بطلانها، والترفع بالرسول الكريم ﷺعما نسب إليه من باطل.

______________________


1. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 5/ 235.

مواضيع ذات صلة