وفي المدينة بدأت حياة الاستقرار، ووجد الرسول ﷺ الراحة والاطمئنان، بعد عناء شاق مرير، كما وجد الصحابة المهاجرون الأمن والحرية في إعلان شعائر دينهم، وبدأت مرحلة البناء بإشرافه ﷺ، بناء المجتمع الجديد الذي تعلو فيه كلمة الله تعالى، ويسري فيه الهدي النبوي، تربية وسلوكاً، وطاعة وحباً. ونحب أن نذكر من هذه القواعد:
1- بناء المسجد:
كان رسول الله ﷺ في مكة يأوي إلى المسجد الحرام، الذي كان يومئذ منتدى القوم، حيث توزعت في جوانبه الأصنام وارتفعت شعائر الشرك، وبدلت فيه شعائر الحج. . فطاف الناس عراة، وتحول الطواف إلى صفير وتصفيق. . . وذهبت من المسجد معانيه، وبقي معلماً للتذكير بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
كان ذلك في مكة. . وبركت ناقته ﷺ بعد أن ترك لها الزمام – وقد أمرهم أن يتركوها لأنها مأمورة – في مربد لابني عمرو مقابل دار أبي أيوب الأنصاري.
كان هذا المكان مدخراً من الله تعالى ليكون ثاني أفضل مكان على وجه الأرض، وليكون المركز الأول لانطلاق دعوة الإسلام في كل أرجاء المعمورة.
وسأل ﷺ عن المربد لمن هو؟ فقال معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما عنه (1)، وفي رواية البخاري: قال ﷺ: (يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا) قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله (2)، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما (3).
وكان في المربد شجر نخل وغرقد، وقبور للمشركين، فأمر ﷺ بالقبور فنبشت وبالشجر فقطع. . . وبدأت عملية البناء يشارك فيها رسول الله ﷺ بنفسه، وكان بناؤه من اللبن، وعُمده جذوع النخل، وسقفه الجريد، وبنيت بيوت نسائه ﷺ إلى جانبه بالأسلوب نفسه، فكان لسودة بنت زمعة بيت وآخر أعد لعائشة رضي الله عنهما.
كان البناء متواضعاً، وكانت التكاليف زهيدة، فالبناؤون هم المسلمون الذين غمر الإيمان قلوبهم، فارتفع البناء بأيديهم رامزاً إلى ما في نفوسهم من معاني الحق والخير، وكانت تظاهرة من العمل الجاد، إذ كيف يجلس الصحابة وهم يرون رسول الله ﷺ يعمل بنفسه، ينقل الحجارة واللبن؟ وصاحب الرجز العمل، فمن قائل:
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
ومن قائل:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 496.
(2) متفق عليه (خ 428، م 524).
(3) البخاري. برقم 3906.
ومن قائل:
لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
وكان ﷺ يردد معهم البيت الأخير.
وتم البناء – كعريش موسى كما قال ﷺ – سقفه الجريد وفرش أرضه الرمل. . .
وأضحى المسجد بعدها هو مكان الصلاة، وهو مكان التعليم وفيه تعقد الرايات، وتناقش الأزمات، وإليه يأوي المسلمون إذا حزبهم أمر. . .
إن المسجد تجسيد لروح الحياة في ظل الإيمان، فالمسلم إذ يدخله خمس مرات في اليوم، إنما يؤكد الارتباط بالصلة بالسماء، والالتزام بأوامر الله تعالى، والانضباط مع هدي النبوة، فدخوله ذلك يعني قياس مستوى ذلك الالتزام والانضباط، إنه قياس لحرارة الإيمان، وتعبير عن الارتباط العضوي بجماعة المسلمين.
إن المسجد هو مكان النظافة والتخلص من أدران البعد عن الله، إنها النظافة مادية ومعنوية، نظافة الحس ونظافة الروح.
[ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا]