إن الأجواء المكفهرة التي كانت تسيطر على سماء مكة لم تكن لتمنع المسلمين من إعلان إيمانهم والاختلاط بالناس وفرض أنفسهم على المجتمع رضي المشركون أن سخطوا.
وقد دخل أبو بكر في جوار ابن الدغنة (1). بعد أن كان خرج مهاجراً إلى الحبشة، ولكن قريشاً طلبت من ابن الدغنة أن يضبط سلوك أبي بكر، الذي كان يصلي في مسجد له ابتناه عند باب داره. فكان إذا صلى وقرأ القرآن اجتمع عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. الأمر الذي أفزع أشراف قريش تخوفاً من فتنة من يستمع إليه فطلبت إلى ابن الدغنة أن يكفه عن ذلك.
وطلب ابن الدغنة من أبي بكر أن يدخل بيته – بعيداً عن أعين القوم – فيصنع فيه ما أحب.
فماذا كان جواب أبي بكر؟ إنها كلمة، قال: أو أرد عليك جوارك. وأرضى بجوار الله، قال: أردد علي جواري. . . ورد عليه جواره.
إن أبا بكر رضي بالجوار ما دام غير مشروط، فإذا كان هذا الجوار سيكلفه التزاماً في سلوكه، وتحديداً لتصرفاته، فذلك الذي لا يمكن قبوله. لم يقل أبو بكر في نفسه إنه لا فرق بين أن أصلي خارج بيتي أو داخله، ولم يبرر للضعف أسبابه، وإنما رفض ذلك الجوار ورده. لأن أمر الإيمان أكبر من أن تملى عليه الشروط. . واستمر أبو بكر على صلاته في مصلاه، كان هذا الحديث بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة.
على أن هذا الإصرار على إعلان الإيمان وتحدي الكفر لم يكن قاصراً على أبي بكر وأمثاله ممن لهم شأنهم في المجتمع. وإنما كان الشأن العام للمسلمين الذين لم يهاجروا إلى الحبشة أو الذين هاجروا وعادوا بعد سماعهم بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
نقل ابن كثير في تفسيره ما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل:
{وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍۢ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍۢ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ}
سورة الأنعام: الآية 52.
وينقل أيضاً عن ابن إسحاق قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد يجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة ويسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه (2).
والذي نريد أن نقف عليه من الروايتين هو أن نسجل ذلك التحدي العريض الذي كان يقوم به المسلمون. فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد الحرام ويجلس حوله أصحابه وقد أعيت كل الأسلحة في استضعافهم وإخماد حركتهم، فبقي لقريش سلاح السخرية والاستهزاء.
إنها ظاهرة الإيمان التي من طبيعتها الاستعلاء. مهما كانت نوعية النفس التي تستقر فيها. فهي التي تصبغ النفس بصبغتها وتعطيها لونها ومن هنا كان الإنتاج الإيماني واحداً سواء أكان في شخصية أبي بكر أم في شخصية بلال.
إن هذا الشموخ الإيماني هو الذي جعل أشراف القوم يحنون رؤوسهم طالبين من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلساً خاصاً بهم يستمعون منه – وقد ظهر لهم أن هذه القوة لا يقف في وجهها شيء فأحبوا أن يكون لهم فيها رصيد ولكن على طريقتهم – ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد يلبي طلبهم، لا خروجاً عن المنهج الإيماني وإنما طمعاً في إيمانهم حيث يصبغهم الإيمان بصبغته – كما قلنا -.
جاء في تفسير القرطبي قوله: قال المشركون: لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء – يعنون: سلمان وصهيباً وبلالاً وخباباً- فاطردهم عنك، وطلبوا أن يكتب لهم بذلك (3)، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ودعا علياً ليكتب، فقام الفقراء وجلسوا ناحية. . فأنزل الله الآية:
{وَلَا تَطْرُدِ…}
ولهذا أشار الله أن يقع. مال طعماً في إسلامهم وإسلام قومهم. ا هـ (4).
وتنزلت الآيات لتؤكد استعلاء الإيمان مرة أخرى بأمر الله تعالى ولتعطي للشكل حكم المضمون. إن ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الإغضاء عنه في سبيل مصلحة يتوقعها وهي إسلام هؤلاء وإسلام قومهم من بعدهم لم يقبله الله تعالى ذلك أن طبيعة الإسلام لا تقبل الشروط والقيود. إنه الاستسلام الكامل لأمر الله تعالى. إن من أوليات مفاهيم الإيمان أن يشعر المؤمن أنه عبد من عباد الله يقيم من خلال عمله وإخلاص نفسه لله لا من خلال وضعه الاجتماعي طبقاً للقيم الجاهلية. إن هؤلاء أرادوا الإسلام على أن يحتفظوا بمكانتهم الاجتماعية التي حصلوا عليها بموازين الجاهلية. . وهيهات؟.
ويتضح من خلال الحادثة أن المسلمين لم يكونوا خلال هذه المدة من الزمن متوارين عن الأنظار، بعيدين عن المجتمع. بل كانوا فيه يبينون حقيقة هذا الدين بسلوكهم وتعاملهم وأخلاقهم، وإذا بالمشركين الذين أصموا آذانهم عن سماع كلمة الحق يرون الإنسانية وقد تمثلت فكانت واقعاً يرى في هؤلاء المؤمنين (5).
1. البداية 3/ 94.
2. البداية 3/ 104.
3. أي أن يكون لهم مجلس خاص بهم. وذكر سلمان هنا سهو، أو هو من باب التمثيل لأنه جاء إلى المدينة ولم يكن في مكة.
4. تفسير القرطبي في تفسير الآية 52 من سورة الأنعام.
5. وضعت هذه الحادثة في هذا المكان ضمن سياق السيرة لأن قريشاً لم تحاول الاستماع إليه صلى الله عليه وسلم إلا في المرحلة الأخيرة من وجوده في مكة حيث أثبت المؤمنون قدرتهم على الحركة والاستمرار بعد أكثر من عشر سنين من الاضطهاد. . ويبدو أن الترتيب الزمني لها. بعد عودة مهاجري الهجرة الثانية إلى الحبشة وذلك لذكر عبد الله بن مسعود – في رواية مسلم – وهو أحد العائدين.