القائمة الرئيسية

الإمساك بزمام السلطة

وصل الرسول ﷺ إلى المدينة، وقد ترك وراءه قريشاً التي ملأت عدوانه قلوبها، وزاد غيظها أن محاولاتها بمنعه من الهجرة قد باءت بالفشل، على الرغم مما بذلت في سبيل ذلك. وي لن تألو جهداً في الوقوف بوجه دعوته بل وربما قتاله إذا لزم الأمر.

أما المدينة فقد كانت مقراً لقبيلتي الأوس والخزرج وإلى جوارهم طوائف من اليهود لا يؤمن لهم، كما أن هناك بعض الأوس والخزرج الذين ظلوا على شركهم. 

وأما بقية العرب ممن هو خرج مكة والمدينة، فأكثرهم كان موقفه موقف المتربص الذي ينتظر ماذا تؤول إليه الأمور.

وإزاء هذه الحال كان الأمر المهم هو تأمين الأمن في المدينة، الأمن الداخلي بين الطوائف الذين يقطنونها، والأمن الخارجي الذي يدفع عنها اعتداء قريش المتوقع.

وبادر الرسول الكريم ﷺ وأمسك بزمام السلطة في المدينة ليستطيع القيام بما يتطلبه الحال من عمل.

السلطة بيده صلى الله عليه وسلم:

ونتساءل كيف استطاع النبي ﷺ المبادرة إلى الإمساك بالسلطة في المدينة كلها وفيها ومن فيها من غير المسلمين؟

ونقول في الإجابة على ذلك:

إن المسلمين من المهاجرين والأنصار مذعنون لهذا الأمر، لأنه أثر من آثار الإيمان بالله ورسوله، وكيف يكون إيمان بغير تصديق وإذعان؟

وما بيعة العقبة الثانية، وإخراج النقباء من الخزرج والأوس ليكونوا كفلاء على قومهم، إلا الخطوة الأولى في الانضواء تحت راية هذه السلطة.

ولهذا المعنى كان شهود ليلة العقبة مفخرة من مفاخر الذين حضروها من الأنصار.

ففي حديث كعب بن مالك: (ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها) (1).

وقد كان انتشار الإسلام – حين قدومه ﷺ – بين الأوس والخزرج كبيراً، ولم يبق على الشرك إلا القليل ولا أدل على ذلك من ذلك الاستقبال الحافل الذي استقبل به صلى الله عليه وسلم، حتى كان الذين لم يروا رسول الله ﷺ من الأنصار يسلمون على أبي بكر ظناً منهم أنه النبي (2)، وذلك من شدة فرحهم التي لم تتح لهم الأناة للتعرف عليه صلى الله عليه وسلم. وفي حديث البراء بن عازب: (.. ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء، فرحهم برسول الله ﷺ، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله ﷺ. . ) (3)، وفي حديث أنس عند الإمام أحمد: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء).

____________________

 

1. رواه البخاري برقم 3889.

2. رواه البخاري برقم 3906.

3.رواه البخاري برقم 3925.


تلك هي حال المؤمنين من المهاجرين والأنصار. وأما من بقي على شركه من أهل المدينة وهم ليسوا أكثرية القوم، فلم يجدوا من المصلحة إظهار العداوة ولما يتعرفوا على النبي الكريم، ولو فعلوا ذلك لنبذوا من قومهم، ولقد كان زعيم هؤلاء، بل أعلاهم مكانة في قومه، عبدالله بن أبي ابن سلول، الذي كان في موسم الحج الذي حصلت فيه بيعة العقبة، ولا شك بأنه قد وصل إلى سمعه ما قاله المبايعون للرسول صلى الله عليه وسلم” (لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا)، فهو يعلم تماماً أنه ليس من مصلحته إظهار العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ووراءه هذا الإيمان العظيم.

وأما اليهود فكانت حصونهم في أطراف المدينة، وكانت بينهم وبين الأنصار أحلاف، فلم يجدوا من المصلحة إظهار العداوة لأن مصالحهم المادية والمعنوية ستكون في خطر، ولذلك أذعنوا ولم   يعارضوا. . إلى حين.

وبهذا أضحت السلطة كاملة بيد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر فيطاع، وينهى فيجتنب ما نهى عنه..

التنظيم الاجتماعي والسياسي:

وكان من أول أعمال التي باشر فيها النبي ﷺ سلطته، ذلك الكتاب الذي كان الدستور الذي يضبط علاقات سكان المدينة بعضهم ببعض على اختلاف فئاتهم وتعدد أديانهم.

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله ﷺ كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم. وشرط لهم، واشترط عليهم:

“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على   ربعتهم (1) يتعاقلون بينهم (2)، وهم يفدون عانيهم (3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف

 ____________________

 

1. أي جماعتهم.

2. العقل: الدية.

3. العاني: الأسير.


على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. . [ثم ذكر بني ساعدة، وبني الحارث، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت، وبني الأوس] ثم قال:

وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (2) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبيء (3) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.

وإنه من اعتبط (4) مؤمناً قتلاً عن بينه فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

____________________

 

1. المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.

2. أي العظمة.

3. من البواء: أي السواء، أي أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فيما ينال دماءهم.

4.اعتبطه: أي قتله بلا جناية منه توجب قتله.


وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، وأن ينصر محدثاً (1) ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (2) إلا نفسه، وأهل بيته.

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، [وذكر مثلهم يهود بني الحارث، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وبني الشطيبة].

وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا.

وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره (3).

____________________

 

1. المحدث: الجاني.

2. يوتغ: يهلك ويفسد.

3. أي أن الله وحزبه المؤمنين على الرضا به.


إنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم سصالحون ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله” (1).

إن إمعان النظر في هذا الكتاب يبين دقته وشموله، في تناول جميع القضايا الأمنية والتكافلية اللازمة لضبط نظام الأمور وتسيير دفنها، وبيان المسؤول عن مراقبتها وتطبيقها. . ولا مجال للتفصيل حول ما اشتمل عليه هذا الكتاب، ولذا فسوف نشير إلى الأمور المهمة والخطوط العريضة الواردة فيه:

1- السلطة: يؤكد الكتاب – أكثر من مرة – أن جماع السلطة كله بيد الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- إن المدينة بلد حرام.

3- التكافل الاجتماعي: حيث تقوم كل طائفة بدفع الدية لمن قتل خطأ وتفك من وقع منها في الأسر، وتساعد المثقل بالدين والكثير العيال. .

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 500 – 504.


4- التنظيم الاجتماعي: فقد أصبح المؤمنون – المهاجرون والأنصار – أمة واحدة، كما جعل يهود كل قبيلة تبعاً لها، وكذلك موالي كل قبيلة تبعاً لها.

5- الأمن من الجرائم: حيث كلف الجميع بـ:

– عدم مناصرة المحدث أو إيوائه.

– المجتمع كله يقوم ضد الباغي ولو كان ولد أحدهم.

– القاتل عمداً يقتل إلا أن يرضى أولياؤه الدية.

– مناصرة المظلوم واجب على الجميع.

6- أمن المدينة: ويكون ذلك بـ:

– أن يشترك جميع أهل المدينة وينصر بعضهم بعضاً على من دهم يثرب.

– أن عليهم جميعاً النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة,

– مشاركة اليهود للمؤمنين في الإنفاق في حالة الحرب.

7- قريش: تعد قريش العدو البارز على مسرح الأحداث ولهذا؛ 

– لا تجار قريش ولا من نصرها.

– لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. 

تلك هي الخطوط العامة في هذه الوثيقة، يلاحظ من خلالها ضبط الأمور وتنظيمها. كما يلاحظ عدم ذكر المشركين إلا في قضية عدة إجارة قريش، الأمر الذي يدل على أنهم كانوا لا يشكلون العدد الكبير، ولذلك كانوا تبعاً لقبائلهم في كل ما اشتملت عليه هذه الوثيقة من أحكام.

أمن المدينة:

ربي المسلمون في مكة – كما رأينا – على تصور واضح عن عالمية هذا الدين، كما  كان هذا التصور واضحاً كل الوضوح في أذهان الأنصار الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية، وإن المناقشات التي دارت في هذه البيعة لتدل دلالة واضحة على ذلك (1).

____________________

1.ومن ذلك ما قاله العباس بن عبادة الأنصاري: “يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم فتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الاشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. .” [سيرة ابن هشام 1/ 446]


وإذن فلا بد للدعوة أن تأخذ طريقها إلى أسماع الناس، ولكن العقبة الكؤود التي كانت في مكة ما زالت قائمة على مسرح الأحداث. تلك هي قريش.

 

إن المركز الديني والمركز التجاري لمكة باتا مهددين بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما أمران تقوم عليهما حياة قريش المادية والمعنوية. لهذا لم يكن مستبعداً أن تهاجم قريش المدينة، أليست هي البلد التي آوت الفارين والخارجين على سلطتها؟ أليس هذا تحدياً لقريش يجرح كبرياءها ويخدش مكانتها؟

لقد أرسلت من قبل في طلب المهاجرين إلى الحبشة من النجاشي، ذلك أنها لا سلطان لها على النجاشي، أما هنا مع يثرب فالأمر مختلف، إن الاحتكام إلى السلاح أمر تلجأ إليه القبائل إذا أصيبت في كرامتها، أو تضررت في أموالها.

لهذا كله لم يكن مستبعداً أن تُهاجم المدينة في كل وقت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يحسبون لهذا الأمر حسابه، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه.

وعلى الرغم من أن نص البيعة هو (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناؤكم)  – كما عند ابن هشام 1/ 422 – ولم يتضمن ما ذهب إليه العباس بن عبادة، إلا أن التصور الواضح لعالمية هذا الدين كان يقتضي هذا الفهم.

قال ابن كثير في تفسيره: قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها. . فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحبة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأت علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة، وأنزل الله هذه الآية:

{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ . .} (1).

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت:

{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ} (2).

وعن عائشة قالت:

(سهر رسول الله ﷺ مقدمه المدينة ليلة، فقال: “ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة” قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: “من هذا؟” قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله ﷺ: “ما جاء بك؟” قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله ﷺ، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله ﷺ، ثم نام) (3)

____________________

 

1. في تفسير سورة النور: الآية 55.

2. عن حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 303 وقال: أخرجه ابن المنذر، والطبراني والحاكم وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، وسعيد بن منصور، كما ذكره في كنزل العمال.

3. رواه مسلم برقم 2410.


تلك صورة تبين ما كان عليه المسلمون بعد الهجرة. . ومن رحمة الله بهم أنه أذن لهم في القتال بنزول قوله تعالى:

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1).

كان ذلك بعد بضعة أشهر من الوصول إلى المدينة.

فماذا يعني هذا الإذن؟

كل المعطيات السابقة تؤكد أن العدو الظاهر على مسرح الأحداث يومئذ، هو قريش. .

وأمر آخر استقر في ذهنه صلى الله عليه وسلم نتيجة للواقع العملي المر الذي عاشه في مكة، أياما وأياماً. . أن سلطان قريش على العرب قاطبة كبير، وأن هيمنتها واسعة، وقد تأكد ذلك له من قصة عرض نفسه على القبائل. . إذ لم تكن قبيلة ما تستطيع مساعدته خوفاً من قريش. . أو حتى لا تثير بينها وبينها عداوة. .

إن هذا وغيره ولد قناعة كاملة بأن قريشاً هي العقبة الوحيدة في وجه الدعوة، وما لم يحد سلطانها، ويقضى على شوكتها، فلن تستطيع الدعوة، أن تسير قدماً، فإن العرب تنظر إليها وترقب سلوكها. .

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش. . وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب. . (2).

لهذا كله ينبغي أن توجه الجهود كلها إلى إنهاء المشكلة مع قريش أولاً ثم يكون الطريق بعد ذلك ميسراً بإذن الله تعالى. . . 

وبدأت سرايا رسول الله ﷺ تغادر المدينة متتابعة. .

____________________

 

1. سورة الحج: الآية 39.

2. سيرة ابن هشام 2/ 560.


– في شهر رمضان من السنة الأولى عقد صلى الله عليه وسلم لواء لعمه حمزة بن عبدالمطلب وبعثه في ثلاثين رجلاً، من المهاجرين خاصة، يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام فيها أبو جهل. .

– وفي شهر شوال من السنة الأولى بعث صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في ستين رجلاً، من المهاجرين خاصة. .

– في شهر ذي القعدة من السنة الأولى بعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ومعه عشرين رجلاً يعترضون عيراً لقريش.

– في شهر صفر من السنة الثانية خرج صلى الله عليه وسلم في أول غزوة غزاها يريد عيراً لقريش في ستين راكباً من المهاجرين فوصل إلى ودان أو الأبواء. . وعقد مصالحة مع بني ضمرة.

– وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية خرج صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل من المهاجرين يريد عيراً لقريش فيها أمية بن خلف. .

– ثم خرج صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الثانية في مائة وخمسين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام. . فبلغ العشيرة من ناحية ينبع. . فأقام بقية جمادى الأولى وأياماً من جمادى الآخرة. .  ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم. .

– ثم خرج في جمادى الثانية في طلب كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة. . وتسمى بدراً الأولى.

– وفي شهر رجب من السنة الثانية كانت سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة. . وفيها قتل المسلمون عمرو بن الحضرمي وأسروا عثمان بن عبدالله بن المغيرة. . 

كل هذا حدث في أقل من عام واحد، وهو أمر يلفت النظر إلى نواح عدة. .

1- في جميع هذه الغزوات والسرايا كان المجاهدون من المهاجرين. . ولعل هذا كان التزاماً بنصوص بيعة العقبة الثانية. . (1).

2- كل هذه الغزوات والسرايا كانت غايتها تجارة قريش، وهذا يعني التضييق عليها في أمر اقتصادها وإشعارها بأن الأمن لم يعد متيسراًـ وأن هناك قوة ناشئة ينبغي أن يحسب لها حسابها.

3- قلنا: إن المدينة كانت في خطر. . وهذه البعوث المتتابعة كان من مهماتها استطلاع المنطقة وما يجري فيها. . وما يؤدي إلى دراسة وافية للوضع السياسي والعسكري في تلك البقعة من الأرض.

4- من وسائل الأمن عقد الاتفاقات مع الجوار. . وفي ذلك تخفيف من عدد الأعداء، وضمان لحرية الحركة. . وهكذا تم الاتفاق مع بني ضمرة، ثم مع بني مدلج وحلفائهم. .

5- وللجانب الإعلامي دور كبير. . فمكوثه صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة وإقامته بها يدل على مراعاة هذا القصد.

وبهذه الغزوات والسرايا المتتابعة تمكن الرسول الكريم ﷺ من إقناع قريش بأن مهاجمة المدينة ليس أمراً سهلاً في متناول أيديهم، وأن الأيدي التي لم ترتفع في مكة للدفاع عن نفسها باتت مسلحة ملؤها الإيمان في جهاد أعداء الله، وكان على قريش أن تفكر طويلاً قبل أن تخطو مثل هذه الخطوة.

وبهذا ضمن ﷺ الأمن الخارجي للمدينة، كما ضمن الأمن الداخلي بالوثيقة التي وضعها.

وهكذا فقد كان جماع السلطة في يده ﷺ.

____________________

1. من المعلوم أن البيعة كانت على أن يمنعوه إذا داهمه العدو، ولم تكن على أن يخرج بهم إلى عدوه وعدوهم.


– فهو المرجع في الأمور كلها. . وإذا خرج إلى غزوة ما، استعمل على المدينة واحداً من أصحابه، فقد استعمل في غزوة بواط السائب بن عثمان بن مظعون، وفي غزوة العشيرة أبا سلمة بن عبدالأسد.

– وهو الذي يبعث بالسرايا ويعقد لها الألوية، كما كان يقود الغزوات بنفسه ﷺ.

– كما كان يعقد الصلح والمعاهدات.

ومن نافلة القول أن نذكر بأنه لم يلزم الأنصار بالخروج في غزوة أو سرية في هذه المدة من الزمن التزاماً منه ﷺ بنصوص بيعة العقبة الثانية، فمآل السلطة إليه لا يعني الإخلال بالعهود والمواثيق، فهو خير من وفى ﷺ.

مواضيع ذات صلة