القائمة الرئيسية

الاستخفاء بالدعوة

 

الدعوة سراً:

يذهب كثير من كتاب السيرة إلى اعتبار السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت نزول الوحي عليه ﷺ فترة سرية بدأت الدعوة حياتها بها، وعلى هذا فقد بدأ ﷺ دعوته سراً.

ولا نجد تفصيلاً لما حدث في هذه السنوات الثلاث في المصادر، فهي لم تتوقف طويلاً عند ذكر هذه المدة، بل لم تفرد لها عنواناً مستقلاً، أو فصلاً خاصاً، وإنما ورد الحديث عنها مجملاً ضمن الحديث عن الدعوة.

فابن هشام – على سبيل المثال – يقول نقلاً عن ابن إسحاق: ثم إن الله عز وجل أمر رسوله ﷺ ان يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله ﷺ أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه سنين – فيما بلغني – من مبعثه . . (1).

وأغفلت بعض المصادر ذكر هذه الفترة إغفالاً تاماً (2).

____________________

 

1. السيرة النبوية، لابن هشام 1/ 262.

2. ومن هذه المصادر: مغازي رسول الله ﷺ لعروة بن الزبير (النسخة المستخرجة) جمع وتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، من منشورات مكتب التربية العربي. 

 


قريباً من ذلك فعل ابن حزم في كتابه “جوامع السير” فإنه بعد ذكر المسلمين الأوائل، وقد عد منهم ما يزيد على الأربعين قال: “ثم أعلن رسول الله بالدعاء إلى الله عز وجل، وجاهرته قريش بالعداوة والأذى… ”   ص 51. لم يستخف بدعوته:

والذي يبدو لي من الرجوع إلى النصوص ومقارنتها، أن النبي ﷺ لم يتأخر عن إعلام دعوته إلى الناس حسب ما أمره الله تعالى به يوماً واحداً، وليس في القرآن الكريم ما يشير إلى ما اصطلح عليه باسم “الدعوة السرية” بل إننا نرى الآيات الكريمة الآمرة بالدعوة صريحة واضحة

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} (1)

{فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2)

{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} (3)

ومن اليقين الذي لا شك فيه، أنه ﷺ قام بتنفيذ هذه الأوامر فور صدورها (4).

____________________

 

= فكلمة “إعلان” هي الكلمة الوحيدة التي تشير إلى أنه قبل ذلك لم يكن في حالة من الإعلان، وهذا لا يعني أنه كان في حالة من السر، فقد لا يعلن الإنسان عن أمر ومع ذلك لا يتوخى السرية فيه.

 

1. سورة المدثر: الآيتان 1- 2.

2. سورة الحجر” الآية 94.

3. سورة الشعراء: الآية 214.

4. مما ورد – على سبيل المثال – بشأن آية الشعراء، ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} أتى النبي ﷺ الصفا، فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله ﷺ:


  1.  

    “يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي لُؤَيٍّ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}”

وهكذا كانت مبادرته ﷺ سريعة لتنفيذ الأمر وكذلك شأنه في كل أوامر الله تعالى.

ولهذا المعنى – والله أعلم – لم يتوقف الإمام ابن القيم عند ما نسميه “الدعوة السرية” عندما تحدث عن مراحل جهاده صلى الله عليه وسلم، بل قال: “وشرع [ﷺ] في الجهاد من حين بعث إلى توفاه الله عز وجل، فإنه لما نزل عليه:

 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

شمر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، ولما نزل عليه: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس. . ” (1).

وأستطيع أن أوكد ما ذهبت إليه بما رواه ابن هشام عن إسلام أبي بكر إذ قال: “فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله” (2). ومن المعروف أن أبا بكر رضي الله عنه من أوائل من أسلم إن لم يكن أول المسلمين، فكيف يًظهر إسلامه في الفترة التي افترض أن تكون سرية؟!

إننا على يقين من أن الرسول ﷺ لم يستخف بدعوته في يوم من الأيام، منذ كلف بها (3). وإن كانت في البدء موجهة إلى من يتوسم بهم الاستجابة وعدم الإنكار.

وهذا يفسر لنا عدم تظاهر قريش بالعداوة من اليوم، وإنما استمعت وسكتت، ولعلها ظنت النبي ﷺ واحداً من المتألهين الذين عرفوا قبله ﷺ باسم الحنفاء. أمثال زيد بن عمرو بن نفيل، والذين لم يقف أحد في وجههم، بل تركوا وشأنهم.

____________________

 

1. زاد المعاد، لابن القيم 3/ 12 بتحقيق شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط.

2. سيرة ابن هشام 1/ 249.

3. ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه “سيرة الرسول صورة مقتبسة من القرآن الكريم” فقال: “إن الدعوة بدأت علنية وبقوة، خلافاً لما روي أنها بدأت سرية. . وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الروايات التي تروي أقوال بعض أصحاب الله، مثل ما روي في قصة إسلام عمر حيث سأل: (أنحن على حق أم باطل، فقال له رسول الله : “بل على حق” فقال” فقيم التخفي إذن). .أن النبي حماية لأصحابه كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم، غير أن دعوته للناس كانت وظلت جهرة، وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته” 1/ 154 – 155.


قال ابن إسحاق: “فلما بادى رسول الله ﷺ قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله، لم يبتعد منه قومه ولم بردوا عليه – فيما بلغني – حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته” (1).

وإذن فقد بدأ ﷺ دعوته قوية صريحة، وقد أسلم عدد لا بأس به يقرب أو يزيد على عشرين صحابياً وصحابية – وهم الذين جاء في تراجمهم أن إسلامهم كان قبل دخول دار     الأرقم (2) – ثم وقفت قريش من وجه الدعوة فاتخذ ﷺ دار الأرقم لا ليستخفي هو فيها، فقد كانت قريش كلها تعلم بدعوته، وإنما ليتيح لأتباعه الجدد الاستخفاء لدفع العدوان عن أنفسهم وقتاً ما (3)، ولأغراض أخرى سنتحدث عنها قريباً إن شاء الله.

____________________

1. سيرة ابن هشام 1/ 264.

2. ممن ذكر في إسلامهم أنه كان قبل دخول دار الأرقم: خديجة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبو بكر، وعثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد وزوجه فاطمة، وابن مسعود، وعياش بن أبي ربيعة، وعبدالله بن جحش، ومعمر بن الحارث، وحاطب بن عمرو، وواقد بن عبدالله بن مناف، وعثمان بن مظعون، وأخواه: عبدالله وقدامة، وعامر بن ربيعة، وخنيس بن حذافة. 

3. هذا ما نراه الصواب في هذه القضية، ولا يعكر علينا النص الذي جاء في البداية نقلاً عن ابن إسحاق 3/ 24، والذي ينص على توقف علي حين دعي إلى الإسلام فقال له النبي : “يا علي، إذ لم تسلم فاكتم…” وكره أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره. .

 


والجواب على هذا: أن هذا الخبر لم يورده ابن هشام، وربما كان ذلك لمطعن فيه، ثم إن هذا الخبر ورد في آخره ما يناقض الواقع. ففي تتمة الخبر: ففعل علي وأسلم ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي إسلامه ولم يظهره.

اهـ. ونتساءل لما الخوف من أبي طالب، وعلي في هذه الفترة إنما كان يعيش مع الرسول ﷺ كما نص عليه ابن هشام 1/ 246.

وقد أورد ابن كثير بعد هذا الخبر مباشرة خبراً آخر من رواية ابن إسحاق بسنده يؤكد أن علياً كان في هذه الفترة في حجر النبي ﷺ. . وفي الخبر أيضاً أن أخ الأشعث بن قيس لأمه واسمه عفيف، كان تاجراً له علاقة بالعباس، قالتقيا أيام الحج قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام يصلي معه فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: =

دار الأرقم:

اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم (1) – أحد المسلمين الأوائل – مركزاً لدعوته. ولا نعلم متى ذلك، وكل ما بين أيدينا يدل أن اتخاذها كان بعد إسلام عدد لا بأس به.

ويغلب على الظن أن اتخاذ هذه الدار إنما كان بعد أن أظهرت قريش عداوتها وصبت غضبها على بعض من أسلم.

وقد استمرت هذه الدار في أداء دورها الفعال حتى إسلام عمر بن الخطاب فيها، في ذي الحجة سنة ست من المبعث (2). وكان ذلك آخر العهد بها، إذا لم نسمع بعد ذلك ذكراً لها في حوادث السيرة. “فقد عز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم حين أسلم عمر بعد إسلام حمزة” كما قال ابن هشام (3).

____________________

= هذا محمد يزعم أن الله أرسله. . فقال عفيف: ليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانياً.

 

 وروى هذا الخبر ابن جرير. وفيه دلالة على نفي ما جاء من طلب السرية – كما في الخبر الأول – فالذي يطلب السرية لا يخرج ليصلي أمام الناس.

1. كانت هذه الدار على الصفا، وقد أسلم فيها ما يقرب من أربعين صحابياً، وكان آخرهم عمر، وعلى هذا فقد كان إسلام عمر رضي الله عنه ما يزيد على ستين صحابياً.

2. كما ذكره ابن سعد عن ابن المسيب، وحكى ابن الجوزي الاتفاق عليه [شرح الزرقاني على المواهب 1/ 272].

3. سيرة ابن هشام 1/ 346.

 


وقد شهدت هذا الدار إسلام ما يقرب من أربعين صحابياً، منهم عمار وصهيب، فقد أخرج ابن سعد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار قال: قال عمار بن ياسر رضي الله عنه (لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله فيها، فقلت له ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام، ثم مكثنا يوماً على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون. .) (1).

كما شهدت إسلام إياس وعامر ابني البكير وغيرهم. .

ولم تكن دار الأرقم وحدها هي مكان اللقاء، وإن كانت – فيما يبدو – مكان توزيع المهمات، وبيان ضم بعض الصحابة إلى بعض (2) وغير ذلك، وكان هناك أماكن أخرى.

ففي أول مقام خطب به أبو بكر، في بدء الدعوة، ضرب ضرباً شديداً. . ثم حمل إلى بيته، وهم لا يشكون في موته، فلما أفاق سأل أمه عن رسول الله ﷺ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب. . وجاءت أم جميل. . فسألها أبو بكر عن مكان رسول الله ﷺ. . فقالت: إنه في دار الأرقم (3).

وسؤال أبي بكر عن مكان وجود رسول الله ﷺ – وهو الرجل الذي قلما يفارقه – يعني أن هناك أكثر من مركز يلتقي به المؤمنون سراً، ويكون تحديد اللقاء في أحدها آنياً، إلا فكيف تعرف أم جميل المكان ويجهله أبو بكر وهو لم يغب في هذه الحادثة عن رسول الله ﷺ إلا يوماً واحداً.

إن هذا ليدلنا على تعدد أماكن اللقاء بالنبي الكريم، وإلا فدار واحدة مثل دار الأرقم ستكون مكشوفة لقريش لو كان تردد المسلمين إليها يومياً كما هو الواقع الذي كان، من اجتماع الصحابة بالنبي ﷺ.

____________________

 

1. طبقات ابن سعد 3/ 347.

2. كما حدث في ضم خباب بن الأرت إلى سعيد بن زيد.

3. انظر في تفصيل هذه الحادثة كتاب (من معين السيرة) للمؤلف ص 62 – 64.

 


لم يكن الاستخفاء عاماً:

قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخف بدعوته، وإنما أذن بذلك لبعض المسلمين مراعاة للأوضاع القاسية التي كان يتلقاها الذين يعلنون إسلامهم.

وقد رأينا كيف أن أبا بكر أعلن إسلامه من يومه الأول، وأغلب الظن أن أكثر الذين أسلموا قبل دخول دار الأرقم كانوا قد استعلنوا بإسلامهم.

ومما يؤكد لنا إعلان عدد من المسلمين إسلامهم خلال هذه المرحلة المبكرة انتشار ذكر الإسلام حتى تجاوز مكة إلى أماكن أخرى ليست قريبة منها، ونكتفي بذكر الخبرين التاليين دلالة على ذلك.

1- روى كل من البخاري ومسلم قصة إسلام أبي ذر في هذه المرحلة المبكرة، وفيها أنه أرسل أخاه يعلم له الخبر فلم يشفه. . فذهب إلى مكة يلتمس النبي ﷺ. . وكره أن يسأل عنه أحداً. . وبعد ثلاثة أيام قال له علي: (ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت، ففعل، فأخبره، فقال: . . فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ﷺ ودخل معه وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: “ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري”، فقال: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه. .) (1).

____________________

1. رواه مسلم برقم 2474 والبخاري برقم 1658.


ونتساءل لو كانت هذه المرحلة سرية مطلقة، فكيف وصل الخبر بظهور النبي ﷺ إلى سمع أبي ذر وهو في مضارب قومه؟

2- وروى مسلم عن أبي أمامة قال: (قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً (2)، جُرءاء (3) عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة. .) (4).

ونتساءل مرة أخرى: كيف وصل الخبر إليه وهو بعيد عن مكة؟ لا شك بأن الاستخفاء كان لمن يرغب به. . ولو لم يكن كذلك لمنع النبي ﷺ أبا ذر – كما مر في الحديث السابق – من إعلان إسلامه.

____________________

 

1. بيناً فيما سبق المقصود من استخفائه ﷺ.

2. جمع جريء.

3. رواه مسلم برقم 832.

 


 

الحكمة من فترة الاستخفاء:

تبين لنا مما سبق أن هذه الفترة استمرت حتى نهاية العام السادس من البعثة، يوم أسلم عمر، وظهر المسلمون، وانتهى دور دار الأرقم فيما يبدو.

وفي هذه الفترة كان الناس بين معلن ومستخف، فهذا عمر بن الخطاب قبل إسلامه يلتقي بأم عبدالله بنت أبي حثمة، زوج عامر بن ربيعة وهي تعد نفسها للرحيل مع زوجها إلى الحبشة، فيقول لها: إنه للانطلاق يا أم عبدالله؟ قالت: فقلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا. . إنها وزوجها بكل هذا الوضوح تعلن عن الخروج. . وعمر نفسه يوم أسلم بعد ذلك لم يكن يدري أن أخته وزوجها قد أسلما. . إنها قضية كانت متروكة للأفراد الذي يسلمون، فيكون إعلان إسلامهم حسن رغبتهم.

وإن الباحث في هذه الفترة من حياة الدعوة يجد أن هذا الاستخفاء كان ينطوي على أكثر من فائدة ومصلحة للمسلمين ومن ذلك:

1- إيصال المعلومات: إن آيات القرآن الكريم كانت تنزل يتبع بعضها بعضاً وفيها التوجيهات الإلهية الكريمة، وكان لا بد لكل فرد مسلم من معرفة ذلك، فهذه الآيات هي التي تقود الجماعة في طريق الحق. . وقد وقفت قريش عقبة في سبيل ها التبليغ، وقد حكى القرآن هذا الموقف، فقال تعالى:

 

{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (1)

وإذا كان هذا موقفهم فكيف يسمحون للرسول الكريم بالاجتماع بأصحابه ليبلغهم الوحي. .؟.

____________________

1. سورة فصلت: الآية 26.


 

وفي سبيل هذا التبليغ كان المسلمون منقسمين إلى جماعات صغيرة يلتقون في البيوت على قراءة كلام الله تعالى وحفظه، ومن لا يستطيع الوصول إلى دار الأرقم كانت تصله الآيات مكتوبة، ويصل إليه من يتلوها عليه ويعلمه إياها. . وقد رأينا النموذج الواضح لهذه الجماعات في اجتماع سعيد بن زيد وزوجته فاطمة وخباب بن الأرت ورجل آخر لم يسم حينما طرق الباب عليهم عمر وهم يقرؤون القرآن ويتدارسونه.

2- تخفيف آلام الصحابة: كانت عمليات القهر والإيذاء قائمة لمن عرف إسلامه وكان هؤلاء يأتون إلى دار الأرقم، أو إلى حيث يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفف آلامهم ويمسح جراحهم ويثبتهم. . وقد جاء أبو بكر يوماً بعد أن ضرب ضرباً شديداً في المسجد، جاء إلى دار الأرقم. . فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله. . ورق له رقة شديدة (1).

3- الابتعاد عن الفتنة: من واقعية هذا الدين أنه لا يطلب من الناس ما لا يطيقون، وبما أن الناس ليسوا جميعاً في مستوى واحد في قدرتهم على تحمل الفتنة، فإن الاستخفاء يتيح لبعضهم بعض الأمن ولو إلى مدة من الزمن قبل أن يكتشف أمرهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على إبعاد الأذى عن أتباعه ما أمكنه ذلك.

4- التدرب والاستعداد: وتعد فترة الاستخفاء مرحلة تدرب على واقع جديد يتدرب فيه المسلم على المفاهيم الجديدة، كما يتعرف على أعضاء مجتمعه الجديد، مما يقوي صلة المسلمين ببعضهم، ويرفع من معنوياتهم. . وهذا ما يجعلهم أكثر قدرة على تحمل البلاء عند وقوعه إذا ما انكشف أمرهم.

5- رصد حركة الأعداء: وكان من فوائد الاستخفاء رصد حركة أعداء الدعوة بحيث تستطيع الجماعة أخذ زمام المبادرة في الحذر منهم، وإبطال ما يسعون له.

____________________

1. انظر (من معين السيرة) ص 69- 72.


والمثال القريب لذلك، ما فعله نعيم بن عبدالله النحام، فإنه لما رأى عمر متوشحاً سيفه، شك في أمره وارتاب في مقصده مما دفعه إلى سؤاله فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد هذا الصابئ. . فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأي أهل بيتي؟ قال: ابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة.

إن استخفاء نعيم بإسلامه أتاح له أن يحول هذا التيار القوي عما أراده إلى جهة أخرى، وأن يهون له من شأن نفسه التي تعاظمت، ولو كان معلناً إسلامه لما استطاع أن يتعرض له، فضلاً عن أن يثنيه عن عزمه.

نتناول في هذا الفصل أمر الجهر بالدعوة، فنبحث أولاً حركة جهره صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ومراحل تصعيد هذا الجعر، ثم نبحث مشاركة الصحابة رضي الله عنهم ودورهم في هذا الميدان.

جهره صلى الله عليه وسلم بالدعوة:

رأينا في الفصل السابق كيف أنه ﷺ أعلم عن مهمته دون تأخير يوم نزل الوحي يطالبه بالقيام بمهمة الإنذار.

ورأينا أن الدعوة قد بدأت هادئة قبل إنكار قريش. .، وفي ظل تلك الفترة كان إسلام من أسلم قبل دخول دار الأرقم.

ثم كان دخول دار الأرقم عقب وقوف قريش في وجه الدعوة وصدها عن سبيل الله، وقد ظلت هذه الدار مركزاً من مراكز اللقاء بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أتباعه حتى نهاية العام السادس من البعثة.

ولكن هذا لا يعني أن الرسول الكريم ظلت دعوته محصورة في إطار قريش وأهل مكة. فإن النصوص التي بين أيدينا تبين أنه ﷺ مع مطلع العام الرابع من بعثته اتجه إلى إعلان دعوته والجهر بها إلى غير قريش حيث بدأ يفتش عن قوم يحمونه حتى يبلغ دعوة الله تعالى.

أخرج الإمام أحمد عن جابر قال: (مكث رسول الله ﷺ بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم: عكاظ ومجنة، وفي المواسم، يقول: “من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة”، فلا يجد أجداً يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع..) (1).

وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 101 عن عبدالله بن كعب بن مالك رضي الله عنهما قال: (أقام رسول الله ﷺ ثلاث سنين من نبوته مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره، حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم فبيلة قبيلة. .) (2).

إن هذين الخبرين وغيرهما يبينان أن دعوته ﷺ كانت في الأعوام الثلاثة الأولى قاصرة على أهل مكة، ثم بدأ يتطلع إلى غير قريش مع مطلع العام الرابع واستمر كذلك عشر سنسن وهي بقية إقامته في مكة، وما ذاك إلا لما رآه من العناد والمقاومة لدعوته من أهل مكة.

ولقد وجد ﷺ في مواسم الحج، ومواسم الأسواق قبل الحج وبعده فرصة مناسبة لعرض دعوته، كما رأينا في النصين السابقين. .

____________________

1. حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 245، وقالك وقد رواه أحمد أيضاً والبيهقي من غير هذا الطريق أيضاً، وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه، كذا في البداية 3/ 159.

 

وقال الحافظ في فتح الباري 7/ 158: إسناده حسن، وصححه الحاكم وابن حبان.

 

وقال الهيثمي 6/ 46: ورجاله أحمد رجال الصحيح.

2. حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 92.

 


 

ومما يلفت النظر في عرضه ﷺ نفسه على القبائل، أنه لم يعد يطلب إيمان الذين يعرض عليهم أمره، وإنما كان يطلب منهم إيواءه ونصرته حتى يبلغ الرسالة، إنه يطلب حمايته لتأمين حرية الكلمة وإيصالها إلى الأسماع، وهو لا يلزم أحداً بقبول ما جاء به. .

ولقد بذل صلى الله عليه وسلم جهوداً مضنية في هذا المجال ولكن المقاومة الإعلامية التي نظمتها قريش كانت تحول دون الوصول إلى ثمرة ما.

روى الإمام أحمد وغيره عن ربيعة بن عباد من بني الدئل – وكان جاهلياً فأسلم – قال:

 

(رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجاهلية فِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُو يَقُولُ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا” وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ) (1).

قال ابن إسحاق: فكان رسول الله ﷺ على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه، ما جاء به من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له، فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده (2).

واستمر رسول الله ﷺ على دعوته تلك حتى العام العاشر من البعثة، وفيه توفي عمه أبو طالب، الذي بذل في حمايته الشيء الكثير، وعندها نالت قريش من النبي ﷺ من الأذى ما لم تكن تنال منه حياته. . وعندها فكر في البحث عن مكان لدعوته خارج مكة.

وكانت الطائف أقرب المدن إلى مكة. . وخرج إليها يبحث عن أرض صلبة يقيم عليها بناء دعوته، ولكنه قوبل برد سيء ومعاملة قاسية. . وعاد ثانية إلى مكة ليتابع بذل الجهد. . عسى الله أن يأتي بالفرج من عنده. .

وكان ذلك في موسم العام الحادي عشر من البعثة حيث كانت البيعة الأولى مع الأنصار. . وكانت الهجرة بعد ذلك.

____________________

 

1. البداية والنهاية لابن كثير 3/ 139.

2. سيرة ابن هشام 1/ 425.


 

جهر الصحابة بالدعوة:

بالنسبة للصحابة – رضي الله عنهم – هناك جهر بالإسلام، وهناك جهر بالدعوة، وما الجهر بالإسلام – في بدء هذه الفترة – إلا الدعوة القوية إليه بلسان الحال وهو أبلغ من لسان المقال.

وقد بينا في الفصل السابق أن أمر  الاستخفاء بالإسلام من قبل بعض الصحابة الأول قد انتهى مع إسلام عمر وهذا لا يعني أن الصحابة لم يظهروا إسلامهم حتى ذلك الوقت، بل إن القلة هي التي ظلت مستترة بإسلامها حتى ذلك الوقت.

إن عمليات التعذيب التي نظمت ضد المسلمين قد بدأت بعد بدء الدعوة بقليل. . وما تلقي العذاب والصبر عليه إلا الإعلان القوي عن هذا الجهر.

ولما اشتد البلاء. . وجه الرسول ﷺ وأصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة. . وكانت هذه الهجرة الإعلان الثاني عن الانتماء القوي لهذا الدين,

ثم كان إسلام عمر بعد إسلام حمزة رضي الله عنهما الدافع القوي لاستعلام اللقية الباقية ممن لم يظهر إسلامه حتى ذلك الوقت (1).

لا شك بأن هذه الأساليب – التعذيب. . الهجرة – في الإعلان عن الإسلام كانت من القوة بحيث تصل إلى قلوب المشركين فتضعهم أمام سؤال مهم هو: ما هو هذا الدين الذي يتحمل معتنقوه كل هذا الابتلاء في سبيله، بل ويغادرون وطنهم من أجله. .؟ وكفى بهذا من جهر عملي بالإسلام، دعوة إلى هذا الدين.

____________________

1. قال عبدالله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه [سيرة ابن هشام 1/ 342 ورواه ابن أبي شيبة والطبراني كما في شرح الزرقاني على المواهب 1/ 277].

وما من شك في أن المسلمين الأوائل قاموا بدور فعال في الدعوة إلى هذا الدين، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يدعو عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فلما استجابوا له جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلنوا إسلامهم. .

ولقد كانت الدعوة مهمة كل مسلم. . فكان الواحد منهم إذا توسم الخير في إنسان دعاه إلى الإسلام فإن استجاب وجهه إلى دار الأرقم حيث يلتقي بالرسول ﷺ وقد رأينا كيف التقى عما وصهيب على باب دار الأرقم دون موعد، وسأل كل منهما الآخر عن سبب مجيئه. . ونسأل: كيف عرف كل منهما مكان الرسول الكريم لولا أن الذين دعوهما اعلموهما بذلك.

على أن الدعوة من الصحابة لم تبق في هذه الحدود الفردية، ولكنها تجاوزت ذلك لتدخل دور الدعوة العامة. ونكتفي بمثالين على ذلك. 

قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط (1)، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ {بسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} رافعاً بها صوته {ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ..} قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوه يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم 

____________________

1. أي من غير الرسول ﷺ.

 


الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتم ما يكرهون (1).

جاء في البداية: عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي ﷺ وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله ﷺ في الظهور، فقال: “يا أبا بكر إنا قليل”، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله ﷺ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله ورسوله ﷺ، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين. . (2).

حدث هذا والمسلمون ما زالوا في دار الأرقم.

نستطيع القول بأنه بعد الخروج من دار الأرقم، قد أصبح للمسلمين في مكة وجودهم الظاهر، وأصبح عددهم لا بأس به، الأمر الذي وحدت فيه قريش خطراً على كيانها، فصعدت من عمليات الإيذاء. .

وهذا ما دعا النبي ﷺ إلى توجيه أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية. . وكان عدد المهاجرين كبيراً، كان عدد الرجال يزيد على الثمانين وبلغ عدد النساء ثماني عشر امرأة. .

وعلى الرغم من قلة الذين لم يهاجروا إلى الحبشة في المرة الثانية، فإن الأخبار تبين الوجود الظاهر للمسلمين في مكة، وإصرارهم على ممارسة حياتهم بشكل صحيح، يملأ نفوسهم إرادة قوية وإيمان صادق يجعلهم لا يكترثون بالضغوط مهما كان حجمها.

فهذا أبو بكر يرد جوار ابن الدغنة الذي أجاره حين أراد الخروج إلى الحبشة، يرده لأن قريشاً أرادت منعه من جهره بتلاوة القرآن الكريم في المسجد ابتناه في بيته لنفسه.

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 314 – 315.

2. البداية والنهاية 3/ 30.


وهذا عثمان بن مظعون – بعد عودته من الحبشة – يرد جوار الوليد بن المغيرة مكتفياً بجوار الله تعالى.

ولم تعد لقريش الهيبة التي كانت من قبل وانحسر الخوف من نفوس المسلمين وتدربوا على تحمل الآلام. .

وبات المسلمون يلتقون بالنبي الكريم في كل وقت، وفي المسجد الحرام، وعلى رؤوس الأشهاد.

فهذا خباب بن الأرت يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري – وهو متوسد في ظل الكعبة، يطلب منه الدعاء، بعد أن لقي هو والمسلمون الشدة من المشركين. . (1).

وأصبحت لقاءات النبي الكريم بأصحابه علنية، وقد سجل القرآن واحداًمنها، وما هو إلا مثل للواقع الاجتماعي يومئذ، وأن المسلمين يجتمعون وفي وضح النهار.

قال تعالى:

 

{وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوٓا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍۢ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍۢ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} (2).

____________________

1.  روى البخاري برقم 3612 عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة – قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاك الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”).

2. سورة الأنعام: الآيتان 51- 52.


قال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم

 

{وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ. . .}

[الأنعام: 50] ).

 

وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال:

 

(كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}) (1).

 

وهكذا نجد أن ستة نفر من المسلمين يجتمعون بالنبي الكريم على مرأى ومسمع من قريش. .(2).

تلك هي الخطوط العريضة لسير الدعوة في مكة حتى بدء الهجرة إلى المدينة.

____________________

 

1. صحيح الإمام مسلم، رقم الحديث 2413.

2. كان هذا الحادث بعد عودة ابن مسعود من الهجرة الثانية إلى الحبشة، حين عاد ثلاثة وثلاثون صحابياُ إلى مكة حين سمعوا بمهاجره ﷺ إلى المدينة [انظر تحقيق ذلك في كتاب (نظرات في دراسة السيرة) للمؤلف].

 

مواضيع ذات صلة