القائمة الرئيسية

البعثة

قال ابن إسحاق: فلما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وللناس كافة بشيراً. وابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان. يقول الله عز وجل:

{شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍۢ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ۚ}

سورة البقرة: الآية 185

 بدء الوحي

روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ. فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ. وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: (اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ. ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}

سورة العلق: الآيات 1-3

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي).

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (1) لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟).

قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ” (2).

وروى البخاري جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}

سورة المدثر: الآية 1

إِلَى قَوْلِهِ

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}

سورة المدثر: الآية 5

فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ) (3).

لئن كانت الرواية الأولى تحدد بدء الوحي – أو النبوة – فإن الرواية الثانية تبين انتهاء مدة النبوة وابتداء الرسالة. قال ابن القيم رحمه الله “أول ما أوحى إليه ربه أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك نبوته صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبليغ. ثم أنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} فنبأه بـ {ٱقْرَأْ} وأرسله بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}”.

فترة إنقطاع الوحي:

إن فترة إنقطاع الوحي المشار إليها في نهاية الرواية الأولى كانت فترة عصيبة في حياته صلى الله عليه وسلم أخذ الحزن فيها من نفسه مأخذه حتى غدا مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال. فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي بنفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه (4).

وكانت هذه الفترة في مدة نبوته صلى الله عليه وسلم لتبدأ مهمة الرسالة بعدها وقد اختلف في مدة فترة الوحي. فقال بعضهم: إنها ثلاث سنوات، وقال آخرون: هي ثلاثة أيام ولم يستند القائلون إلى دليل. ولئن كان الرأي الأول غير مقبول – لأن هذه المدة كانت مدة الدعوة السرية ولا يعقل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد باشر الدعوة إلى الله دون أمر، كما يلاحظ أن تشريع الصلاة كان في وقت مبكر وهو أمر مرتبط بالرسالة – فإن الرأي الثاني كذلك، لأن الأيام الثلاثة مدة غير كافية لتجعله صلى الله عليه وسلم يحاول التردي من شواهق الجبال.

ولعل الأقرب إلى الصواب هو ما روي عن ابن عباس أن فترة الوحي كانت أربعين يوماً (5).

من حكمة الفترة:

إن المهمة التي أعد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أكبر مهمة عرفها تاريخ الإنسانية فهي عبْ ثقيل، بل وقول ثقيل:

{إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}

سورة المزمل: الآية 5.

ولذا فهي بحاجة إلى تهيئة وإعداد في نفسية الرسول الكريم. فكان التمهيد لها بالرؤيا الصالحة. قال القاضي عياض وغيره: “إنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة” (6).

ثم نزل عليه الوحي بـ “اقرأ” وقد بيت رواية البخاري ما عاناه عليه السلام وما أصابه من الجهد، فكان بحاجة إلى الراحة التي تذهب عنه ما خشيه على نفسه، وما ألم به من غط الملك له، كما تجعله في تشوق إلى لقاء آخر فكانت الحكمة الإلهية في فترة الوحي.

إنه الإعداد الإلهي، لتكون الصلة بالسماء هي المهيمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وتتابع الوحي.

ما أنا بقارئ:

يستوقفنا في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بقارئ) جواباً على قول الملك: “اقرأ” وهو تعبير واضح عن عدم معرفته صلى الله عليه وسلم القراءة لأنه لم يسبق له تعلم ذلك. وأكثر العرب يومئذ ما كانوا يقرؤون أو يكتبون، والنبي صلى الله عليه وسلم واحد منهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى عدم معرفته تلك، بقوله:

{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ}

سورة الأعراف: الآية 157.

وواضح من الآية الكريمة أنه موصوف في التوراة والإنجيل بأنه أمي وهذا الوصف سابق على ميلاده عليه السلام. وإذن فهي حكمة الله تعالى وإرادته. وقد أشار القرآن إلى هذه الحكمة بقوله:

{وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ}

سورة العنكبوت: الآية 48.

وقد أجاد المرحوم محمد رضا بقوله: “قال أهل التحقيق: وكونه أمياً من جملة معجزاته:

1- أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته. والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبه ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها بالقليل والكثير. ثم إنه عليه الصلاة والسلام – مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ – يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى:

{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ}

سورة الأعلى: الآية 6.

2- أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع [كتب] الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة. فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات(7).

وهذا هو المراد من قوله:

{وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ}

العنكبوت الأية 48


 

1. يعني شاباً قوياً حتى أنصرك. والأصل في “الجذع” للدواب.

2. متفق عليه (خ 3، م 160).

3. متفق عليه (خ 4، م 161).

4. جاء هذا في صحيح البخاري معلقاً (كتاب التعبير باب 1 رقم 6982) ونفى بعضهم ذلك لأنه محاولة انتحار وهي حرام. ويرد على هذا بأنة لم يكن وقتها قد نزل تشريع تحريم الانتحار ولا يكون الانسان مسؤلا عن شئ لم تنزل حرمتة

5. في شرح الزرقاني (1/ 236) بحث مفصل حول الأقوال الواردة بهذا الصدد.

6. شرح الزرقاني 1/ 218.

7. كتاب (محمد رسول الله) ص 63

مواضيع ذات صلة