القائمة الرئيسية

التربية الاقتصادية

تناولت التربية الاقتصادية في هذه المرحلة جوانب متعددة، منها ما هو هو موجه إلى القادة، ومنها ما هو بيان للقيمة المالية للإنفاق، ومنها ما هو تحذير على المسلمين من الانغماس في الدنيا. . ونتحدث عن كل من هذه الجوانب.

توجيه للقادة:

إن القضايا المالية تظل لها مكانتها في نفوس الناس مهما كان شأنهم، وتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها. ومطلوب من كل قائد وكل مسؤول يوكل إليه أمر ذلك أن يعدل بين الناس، وإذا كان هناك من وجهة نظر في تميز بعض الناس فليكن أمر هذه الوجهة واضحاً أمام الجميع، حتى لا يكون للشيطان مدخل إلى النفوس.

إن الرسول ﷺ حين أراد أن يوزع غنائم بني النضير جمع الأنصار، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الأنصار بما صنعوا من إكرام إخوانهم المهاجرين، قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكن في منازلكم.

فبين لهم وجهة نظره صلى الله عليه وسلم في التوزيع على المهاجرين خاصة حتى لا يكون في النفوس شيء. .

وهذا كان أمره ﷺ في كل ما كان للشيطان منه مدخل، فإنه كان يغلق هذا المدخل (1).

وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها كانت غنائم هوازن التي حصل عليها المسلمون إثر غزوة حنين:

_______________________


1. من هذا الباب ما ورد في البخاري برقم 2035 بشأن زيارة صفية زوج النبي له أثناء اعتكافه في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم معها ليوصلها إلى منزلها وفي الطريق مر رجلان من الأنصار. .فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً”.


وبدأ ﷺ بالأموال فقسمها، أعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مئة بعير، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مئة بعير. . وأعطى وأعطى. .

كانت تلك الأعطيات الكبيرة في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء. فأثر ذلك في الأنصار، ووجدوا في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي – والله – رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وقال بعضهم: يغفر الله لرسول الله ﷺ، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟.

ودخل سعد بن عبادة على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إن هذه الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، أعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: “فأين أنت من ذلك يا سعد؟” قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: “فاجمع قومك في هذه الحظيرة. .”.

جرى هذا الحديث من الأنصار والرسول ﷺ مشغول بتوزيع الغنائم فلم يكن هناك وقت ليحدثهم عن أسباب هذا التوزيع، ولو انتظروا حتى يفرغ لكان إليه وشرح لهم الأسباب كما هي عادته ﷺ في مثل هذه المناسبات.

واجتمع الأنصار. . وجاء سعد فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. .

وجاء رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ:

“يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟”
قَالُوا: بَلْ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
ثم قَالَ “أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟”.
قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.

قَالَ: “أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ”

فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقْنَا (1). 

إن الأنصار وهم من هم، حين لم يعرفوا وجهة نظر رسول الله ﷺ وجدوا عليه، رغم أن ما وزعه رسول الله إنما كان من الخمس ولم يكن من الغنيمة بكاملها، أي كان من القسم الذي للرسول صلى الله عليه وسلم التصرف الكامل به حسب ما يراه، علماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعط أيضا المهاجرين شيئاً. .

ولكن الأنصار وجدوا أنفسهم أحق من أبي سفيان وأمثاله. .

إن هذا البيان الذي بينه ﷺ للأنصار هو درس لكل القادة، مهما وثق بهم أتباعهم أنه لا بد من بيان أسباب بعض التصرفات التي ربما أغفلت كانت سبب التفرق، وأن تحمل النفوس الضغائن. .

_______________________

1. سيرة ابن هشام 2/ 498.


القوة الإنفاقية:

يعرف الناس اليوم ما يسمى “بالقوة الشرائية” في ميدان الاقتصاد، فالدرهم في يوم قد يشتري به أقل أو أكثر مما اشترى به في يوم سابق، فالدرهم هو الدرهم، ولكن عامل الزمن والظروف المتغيرة هي التي تحدد قيمته الشرائية.

وقد بين الله في هذه المرحلة أن ثواب الإنفاق في سبيل الله يختلف مقداره بين وقت وآخر، فعامل الزمن له أثر فعال في هذا الموضوع.

ورد هذا في قوله تعالى:

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَٰتَلَ ۚ أُولَٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُوا مِنۢ بَعْدُ وَقَٰتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1). 

فالإنفاق قبل الفتح أعظم درجة عند الله من الإنفاق بعده. .

وسواء أكان المقصود بالفتح فتح مكة، أو كان المراد به صلح الحديبية، فإن المبدأ ثابت.

“إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء. . عير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة  آمنة والأنصار كثرة، والنصر والغلب والفوز قريبة المنال. . ذلك متعلق مباشرة بالله، متجرد تجرداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة  بالله وحده. . لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته. وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين” (2).

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ “دَعُوا لِي أَصْحَابِي” فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ”.

_______________________

1. سورة الحديد” الآية 10.

2. في ظلال القرآن عند تفسير الآية المذكورة.


وفي الصحيح:

“لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ” (1)

وهكذا كان لا بد من لفت النظر إلى هذا الأمر حتى يعرف لصاحب الفضل فضله وحتى يتدارك المتأخر نفسه “بالكم” إذ فاتته درجة “النوع”.

ويسير في الاتجاه نفسه ما حدث في غزوة تبوك. . حيث حث الرسول ﷺ على الصدقة. . وتبرع المسلمون . . وكان من جملة من تبرع أبو عقيل، أحد الأنصار، فقد أتى بصاع من تمر وقال: بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر. . ولمزه المنافقون (2).

وفي هذا المعنى جاء قوله ﷺ:

“سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا” (3)

وهكذا يبين ﷺ أن الأجر لا ينظر إليه من زاوية واحدة وهي كثرة أو قلة المال المبذول، وإنما ينظر إليه أيضاً من زاوية حال المعطي والظروف المحيطة به، وقد رأينا في فصل ماضٍ كيف ربى الإسلام في نفوس أتباعه روح العطاء.

وبهذا قد تكون القوة الإنفاقية لدرهم تساوي آلاف الدراهم. وهذا ما يدفع كل فرد للمشاركة بما يستطيع، وأن لا يستقل ما يشارك به فالميزان عند الله غير ميزان الناس. . فالذرة لها حساب. .

_______________________

1. أوردهما ابن كثير عند تفسير الآية المذكورة.

2. انظر تفسير ابن كثير في تفسير الآية 79 من سورة التوبة.

3. رواه النسائي: في كتاب الزكاة، باب جهد المقل.

تحذير وتخويف:

ربي المسلمون – كما رأينا – على الصبر على تحمل أنواع المشاق على اختلافها، ومن جملتها الصبر على الفقر. .

وتمر الأيام. . وتأتي الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، وقد توطدت أركان الدولة، وأخذت الدعوة طريقها إلى القلوب على نطاق واسع. . وجاء الله بالغنى. . وتواردت الأموال على المدينة. .

إن الصبر على الغنى قد يكون أصعب في حقيقته من الصبر على الفقر، فلئن كان الفقر يدفع بالإنسان إلى العمل ليدفع عن نفسه الحاجة إلى الناس، وحتى لا تكون يده هي السفلى. . فإن الغنى يدفع إلى الانغماس في الدنيا أكثر وأكثر، لأن من طبيعة الفطرة – كما رأينا في فصل سابق – أنه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً.

وأمر آخر، وهو أن الغني يجر إلى الطغيان إلا من عصم الله تعالى، وهذه حقيقة تقرها الآيات التالية:

{كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰٓ} (1).

من أجل هذا، كان لا بد من توجيه المسلمين وتحذيرهم من أن يسيطر عليهم الاهتمام بالدنيا. . وفي مقابل ذلك قد ينسون مهمتهم الأولى التي هي عبادة الله تعالى بمفهومها العام، وكذلك الدعوة إلى دين الله تعالى.

وكان هذا التوجيه في اللقاء التالي:

_______________________

1. سورة العلق: الآيات 6- 8.

 


عن عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا. . فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَقتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ:
“أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ”.
قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: “فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ” (1). 

وهكذا يبين لهم ﷺ تخوفه من أن تسيطر عليهم اهتمامات الدنيا وزخارفها وتجرهم بعيداً من حيث لا يشعرون عما خلقوا له. وفي هذا من البلاء ما فيه.

_______________________

1. رواه البخاري برقم 6425 ومسلم برقم 2961.

مواضيع ذات صلة