إن الخطوط العامة للتربية هي هي لا تتغير، وقد تحدثنا في القسم الأول من هذا الكتاب بالتفصيل عن الأركان والمسارات والسمات العامة للتربية.
والذي يحدث من الناحية العملية في بعض الأحيان أن تكون بعض الأركان أو بعض المسارات بحاجة إلى أن تكون في مكان الصدارة لشدة الحاجة إليها.
وقد يظن للوهلة الأولى أن المهاجرين كانوا في غاية الراحة من جراء ما يبذله إخوانهم الأنصار في سبيل تأمين راحتهم. وقد كانوا كذلك.
ولكن التعامل مع الجو الجديد كان بحاجة إلى جهد غير يسير حتى يتكامل الاطمئنان إليه والتواؤم معه. .
وفي سبيل ذلك تبرز الحاجة ملحة إلى “الصبر” الذي هو العدة في التغلب على الصعاب.
– إن الإحساس بالغربة كان قوياً في البدء، وبدأ الحنين يدب في النفوس إلى الموطن الأول. . وقد رأينا حنين بلال. .
– إن جو المدينة الموبوء الذي كان سبباً في مرض بعض الصحابة، كان عاملاً منغصاً أيضاً.
– بدأ الإيذاء يتسع نطاقه على أيدي المشركين من الأوس والخزرج ومن اليهود.
إزاء هذا كله لا بد من التواصي بالصبر. .
جاء في سنن أبي داود: عن كعب بن مالك:
(وَكَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ يَهْجُو النَّبِيَّ ﷺ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ مِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْيَهُودُ وَكَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(الْآيَةَ) (1).
والآية المشار إليها في الحديث هي قوله تعالى:
{لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ}
(2).
قال ابن كثير: يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسلياً عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال:
{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ} .
ونعطي نموذجاً لإيذاء المشركين واليهود:
_______________________
1. رواه أبو داود برقم 3000 باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة.
2. سورة آل عمران: الآية 186.
عن أسامة بن زيد:
(أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ قَالَ: حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَّا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ عليهم، ثم وَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا (1) بِهِ فِي مَجْلِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يَخْفِضَّهُم حَتَّى سَكَتُوا. .) (2).
وكان كعب بن الأشرف يشبب بنساء المسلمين.
وقد مر بنا في الفصل الثالث من هذا الباب (3) ما أثاره شاس بن قيس من مشاحنة بين الأوس والخزرج كادت تؤدي إلى وقوع القتال لولا تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة:
إن التربية في هذه الفترة تطلبت جهوداً كبيرة في التأكيد على التحلي بالصبر، كما أنها تطلبت توعية وبياناً لما يحيكه الأعداء من دسائس، واحتاجت إلى معاناة للقضاء على التصرفات المتصلة بالجاهلية والقضاء على رواسبها.
كل هذا يضاف إلى الأعباء الأخرى في شتى الميادين، والتي كانت مطلوبة من النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. وقد قاد بها أمته على أحسن وجه، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً.
_______________________
1. كذا في البخاري.
2. رواه البخاري برقم 4566.
3. في الصفحة (161).