القائمة الرئيسية

التربية للمواجهة الخارجية

قلنا إن الإسلام كان يسير بتربية الجماعة الأولى في أكثر من مسار في آن واحد.

وها هو في الوقت الذي يحارب في الرواسب الجاهلية في النفس، ويحارب الشح والحرص، ويبني الخير. . كان يبني هذه النفوس في مسار آخر لتستطيع الوقوف صامدة في معركتها مع الشر والباطل والطغيان في واقع الحياة.

معركة في داخل النفس لإصلاحها، ومعركة أخرى بالنفس لإصلاح الواقع بها من حولها.

وهذه المعركة مفروضة على المؤمنين، وهي في حقيقتها معركة عقيدة. . وكان على المؤمنين في مكة أن يثبتوا ويصببوا. .

فلم يكد رسول الله ﷺ يعلن بدعوته، حتى وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، ويفتنونهم عد دينهم. وكانوا أشد قسوة في معاملتهم على المستضعفين من المسلمين، فكانوا يعذبونهم برمضاء مكة إذا اشتد الحر. (1).

وهكذا بدأت الحملة عامة على الجميع، ولكن رسول الله ﷺ قد حماه الله بعمه أبي طالب. ونشأت حالة من الخوف نتيجة لهذه المعاملة القاسية، الأمر الذي أوقف حركة الدعوة أو بطأها إلى حين.

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 268 و 317.


ونتيجة لشدة هذه الهجمة الجاهلية الشرسة كان المسلمون أحد رجلين، منهم من ثبت وعصمه الله تعالى، ومنهم من فتن من شدة البلاء الذي يصيبه (1)، وهم القلة القليلة.

قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبدالله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: (نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده) (2).

ومن المعلوم أن سمية أم عمار، وزوجها ياسر، قد ماتا تحت التعذيب. وقد تحمل عمار ما شاء الله أن  يتحمل حتى وصل إلى مرحلة الإعياء. . ولم يتركوه حتى نال من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جاءه يبكي، ويسأله ﷺ: “فكيف تجد قلبك؟” قال: أجده مطمئناً بالإيمان، فقال: “يا عمار إن عادوا فعد”، وأنزل الله تعالى:

 

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ} (3).

وعذب بلال. وعذب خباب.. وعذب صهيب.. وعذب غيرهم وغيرهم. . وكانت موجة من البلاء قاسية نالت الضعفاء في الساحات العامة، ونالت غيرهم كل إنسان ضمن قبيلته.

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 317.

2. سيرة ابن هشام 1/ 320.

3. سورة النحل: الآية 106 والحادثة ذكرها ابن كثير في تفسيره عند ذكر هذه الآية.


وكان من نتيجة هذه الموجة، أن مات من مات تحت التعذيب، وصبر من صبر. . وفتن من فتن. . وهكذا تخلصت الدعوة منذ البدء ممن لم يكن أهلاً لحملها. . وكانت المرحلة الأولى من الاختبار.

وثبت الآخرون على الرغم من استمرار عمليات التعذيب. ذلك أن الصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى. . ومن تحمل البلاء في المرة الأولى فهو أقدر على تحمله في المرة الثانية.

ففي حادثة عبدالله بن مسعود حين جهر بالقرآن لأول مرة في الحرم، وقام إليه المشركون فضربوه حتى أثروا في وجهه. قال له أصحابه: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً. . (1).

وهي كلمة من ابن مسعود تستحق التدبر والفهم. فكثيراً ما يكون الخوف والوهم بلاء أكبر من البلاء المتوقع نفسه، ولما حل هذا الأمر بابن مسعود وجد أن الأمر أقل مما كان يقدر. .

ويوضح سعد بن أبي وقاص هذا المعنى أيضاً بقوله: (كنا قوماً يصيبنا ظلف (2) العيش وشدته بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومرنا (3) عليه وصبرنا     له. .) (4).

ورأينا في مثال سابق كيف صبرت جارية بني المؤمل لتعذيب عمر بن الخطاب حتى كان يمل من ذلك.

ولا شك بأن لقاء الصحابة بالرسول ﷺ – الذي كان يخفف من آلامهم ويمسح جراحهم – كان له الأثر الكبير في استمرار الصبر ومتابعة الطريق.

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 315.

2. أي بؤسه وشدته وخشونته.

3. أي: اعتدنا وداومنا.

4. حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 312 نقلاً عن الحلية لأبي نعيم 1/ 93.


ولقد كانت الآيات الكريمة تبث فيهم روح الثبات، ونعتقد أن سورة البروج كان نزولها في هذه الفترة العصيبة لتشد من عزائم المؤمنين، وتبين لهم أن هذا الطريق يحتاج إلى الجهد الكبير وأن الجزاء مقابل ذلك عند الله كبير. . ولنستمع إلى جانب من هذه السورة الكريمة:

 

{وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍۢ وَمَشْهُودٍۢ قُتِلَ أَصْحَٰبُ ٱلْأُخْدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّآ أَن يُؤْمِنُوا بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ. .} (1).

“إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة. . وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار. . وهذا هو الانتصار”.

“إن الناس جميعاً يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق. . إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد. المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس.. ” (2).

____________________

 

1. سورة البروج: الآيات 1- 11.

2. معالم في الطريق. لسيد قطب. بحث: هذا هو الطريق.


لا شك بأن تلك المعاني كانت بعض ما يجول بخاطرهم وهم يتلقون صنوف البلاء على أيدي المشركين.

وثبتت القاعدة الصلبة وتجاوزت الصدمة الأولى بنجاح كبير. .

وكان الذين يعلنون إسلامهم بعد ذلك يعلمون مسبقاً ما ينتظرهم، ولذا فقد كانت نفوسهم مهيأة لذلك. ولم يحصل بعد المرة الأولى أن فتن مسلم وافتتن لهذا السبب الذي ذكرناه.

ولا يعني هذا أن قريشاً قد تحسن موقفها أو أنها هادنت الدعوة. فقد كان على كل مسلم يعلم إسلامه أن ينال الضرب والشتم. وهذا ما أصاب عمر بن الخطاب يوم إسلامه. فقد ثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم. . وفي رواية البخاري أنهم أحاطوا ببيته ولم يدفعهم عنه إلا العاص بن وائل السهمي.

واستمر البلاء كذلك. . يتجدد كلما كانت هناك مناسبة. . فهذا ابن مسعود يضرب ضرباً شديداً يوم قرأ القرآن في الحرم. وهذا أبو بكر يضرب كذلك يوم خطب في الحرم. وهذا أبو ذر يضرب يوم أعلن إسلامه.

على أن هذا لم يمنع استمرار الدعوة ودخول الناس في الإسلام، وإن كان عاملاً من عوامل التريث لدى بعض من كان لهم رغبة في الدخول في هذا الدين.

وقد تفننت قريش بألوان المضايقات. فكان أبو جهل إذا جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان شعيفاً ضربه وأغرى به (1).

____________________

1. سيرة ابن هشام 1/ 320.


ودعا رسول الله ﷺ أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة فقال:

“لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق، حتى يجعل الله، لكم فرجاً مما أنتم فيه” (1).

وكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة. .

وكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة. .

ويعلل بعضهم رجوع مهاجري الهجرة الأولى بقصة الغرانيق الباطلة (2)، وبعضهم يعلل ذلك بوصول خبر كاذب إليهم بأن قريشاً أسلمت. . والذي نراه أن شدة ارتباط العربي بقومه وأرضه كانت عاملاً نفسياً مهماً في هذه العودة. . (3).

ثم كانت الهجرة الثانية. وكان عدد أفرادها يزيد على الثمانين رجلاً. . ولا شك بأن هذه الهجرة أدت أغراضها فقد عاش المسلمون فترة من الزمن هناك كانت لهم الحرية في ممارسة شعائرهم. .

وكان لها أهداف تربوية أخرى. ذلك أن هؤلاء المسلمين الأول كانوا قد تحملوا البلاء في نفوسهم سخرية واستهزاء، وفي أجسادهم ضرباً وتعذيباً. وفي أموالهم وتجارتهم كساداً. تحملوا كل ذلك راضين، ومرنت نفوسهم على ذلك، وكان هناك أمر آخر ينبغي أن يتدربوا عليه وهو ترك الوطن من أجل العقيدة. حتى تكون العقيدة هي كل شيء.

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 321.

2. انظر دليل ذلك تفصيلاً في كتاب (أضواء على دراسة السيرة) للمؤلف.

3. انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق.


وكان من حكمة الله أن يسر لهم هذه الهجرة. والذي يدفعني إلى هذا الرأي أني نظرت في أسماء المهاجرين إلى الحبشة فلم أجد بينهم بلالاً ولا صهيباً، وأما عمار فمشكوك في هجرته الأمر الذي يدفع إلى التساؤل بأنه لو كانت الهجرة إلى الحبشة هرباً من الاضطهاد لكان هؤلاء أولى بها. ولكنها كانت تربية على أمر نفسي لم يكن بلال وصهيب وعمار بحاجة إليه فهم ليسوا من قريش. ومكة ليست بلدهم الأصل ولذا فلن يصعب عليهم تركه لو طلب منهم ذلك.

ومهما يكن من أمر فقد وقعت الهجرة، وبرهن المسلمون عملياً أنهم يقدمون عقيدتهم على بلدهم وأهلهم وقومهم، وذلك انتصار كبير يعرفه ويعرف قيمته كل المغربين عن أوطانهم والمبعدين عن أهلهم. .

نستطيع القول الآن – وبعد تلك المعاناة المتعددة الجوانب – بأن هذه التربية قد استطاعت الوصول بالمسلمين الأول إلى درجة القوة، وأنهم استطاعوا التخلص من ضعفهم النفسي والجسدي مستعينين بالصبر والصلاة ومن الجوانب البارزة في هذه القوة ضبط أنفسهم تتنفيذاً لقوله تعالى:

 

{كُفُّوٓا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ}

(1)

وذلك طول كدة وجودهم في مكة.

____________________

1. سورة النساء: الآية 77. قال ابن كثير: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة. . وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها: قلة العدد. . ومنها: كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام. . ا هـ.


أقول: وقد قال عمر يوم إسلامه مخاطباً المشركين: . . فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. [سيرة ابن هشام 1/ 349] وما ذاك إلا لشعور منه بأهمية العدد في هذا الميدان.

وقال سيد قطب رحمه الله مشيراً إلى بعض حكمة هذا الموقف: “إن البيئة العربية كانت بيئة نخوة، تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى، واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه، فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة” [في ظلال القرآن 5/ 3166] وانظر أيضاً 1/ 185 من الظلال.

إن العربي بطبيعته بأبي الضيم والذل. ولقد كانت الحماسة والاندفاع تدفع بعض الأحيان بعض المسلمين إلى اللجوء إلى السلاح للدفاع عن النفس وعن الكرامة ولكن الأمر صدر إليهم بالمنع. . ولقد التزموا بذلك والآية السابقة تشير إلى هذا الموقف الذي استمر الالتزام به حتى الهجرة إلى المدينة، فقد كان الحماس شديداً في بيعة العقبة الثانية حتى قال العباس بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال له: “لم نؤمر بذلك..” (1).

هذا الموقف من ضبط النفس طول تلك المدة، وعلى كثرة الحوادث التي أصابت المسلمين من ضرب واستذلال. . تؤكد أن قوة ضبط الأعصاب وقوة التحكم بالإرادة وفقاً للأوامر قد وصلت إلى الدرجة المطلوبة وأن تلك التربية قد آتت ثمارها.

ويقول سيد قطب رحمه الله في تحليل هذا الموقف:

“إن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام، والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب، مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وكل مغنم، ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق” (2).

ومما ينبغي التأكيد عليه أن الأمر بالامتناع عن القتال كان أمراً عارضاً لأسباب محلية، ذلك أن الله تعالى وصف المؤمنين في سورة الشورى فقال: 

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 448.

2. في ظلال القرآن 5/ 3166 – 3167.


 

{.. وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَٰٓؤُا سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ. .} (1).

والآيات هنا مكية نزلت في الوقت الذي منع فيه دفع الأذى ورد العدوان ومع ذلك فهي تصف المؤمنين بأنهم: {إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}. ذلك أنها تقرر صفة أصيلة لا بد م وجددها في نفس المسلم بقطع النظر عن الظروف الطارئة.

إن “ذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة. . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة، صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة، لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل، وهي عزيزة بالله

{وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2)

فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان، وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصلية” (3).

كانت الهجرة إلى الحبشة – إذن – برهاناً على القوة التي وصل إليها هؤلاء المهاجرون رجالاً ونساءً.

ولكن عدداً لا بأس به من المؤمنين لم يهاجر، وظل مقيماً في مكة، إما لأنه وجد من يحميه من قرابته، وإما لأنه قد مرن على تحمل الأذى. .

وحدثت في العام العاشر من البعثة حادثة الإسراء والمعراج، ولم يحضر مهاجروا الحبشة حديثه ﷺ وهو يروي الحادثة. . وإنما حضره الذين لم يهاجروا.

____________________

 

1. سورة الشورى: الآيات 38 -40.

2. سورة المنافقون: الآية 8.

3. في ظلال القرآن 5/ 3166.


وحدث الرسول ﷺ بحديثه. . فكذبوه. .

ووصل الخبر إلى أبي بكر فقال: “لئن قال ذلك لقد صدق” قالوا له: فتصدقه؟ قال: “نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة” (1).

وكذلك كان أمر المؤمنين. .

ولكن فئة منهم افتتنت. قال ابن كثير: “. . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير، كانوا قد صلوا معه” (2) وفي سيرة ابن هشام “فارتد كثير ممن كان أسلم” (3).

إن المعجزات وسيلة للدعوة إلى الإيمان، ولكن معجزة الإسراء كانت وسيلة لتنقية الصف من الضعفاء، وإسقاط الذين هم على حرف. .

ولقد كان هذا الاختيار من حيث مادته في أمر اعتقادي، غير قابل للمساومة فيه، وهو الثقة المطلقة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق إخباره وكل ما يصدر عنه، وهو أمر أساسي تحدثنا عنه تحدثنا عن العقيدة، في شأن التلقي على الرسول الكريم.

إنها قضية ينبغي ألا تساورها الشكوك. وهي قضية عقلية، كما رأينا، في موقف أبي بكر. وهو موقف كل المؤمنين الصادقين. .

ونعتقد أن هؤلاء الذين ارتدوا كانوا حديثي عهد بهذا الدين، لم يمروا بالاختبارات القاسية التي مر بها المؤمنون الصادقون، وقد أثر عليهم ذلك الجو العام من الهرج والمرج الذي قامت له فقريش عند سماعها للخبر. .

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 399.

2. تفسير ابن كثير في مقدمة سورة الإسراء.

3. ج1 ص398.


ومهما يكن من أمر فقد حصل التمحيص للصف الإسلامي، وسقطت الشوائب وتابع المؤمنون الصادقون سيرتهم برعاية الله تعالى، موقنين بقوله تعالى:

 

{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ} (1).

وبهذا أثبت الفريق الآخر – الذين ظلوا في مكة – قوتهم بعد أن سقط من سقط. وبهذا وصل الصف المسلم إلى مرتبة التناسق، التي لا بد من الوصول إليها في تكوين القاعدة الصلبة. ذلك أن “الجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة لا يغنيها هذا إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة، ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات” كما يقول سيد رحمه الله (2).

____________________

 

1. سورة النجم: الآيتان 2-3.

2. في ظلال القرآن 2/ 704.

 

مواضيع ذات صلة