لئن كانت هذه الفترة الوجيزة من عمر الدعوة مليئة بالأحداث الداخلية التي هدفت إلى توطيد وإرساء قواعد الدولة في المدينة، من إقامة المسجد بكل ما يعنيه في الحياة الإسلامية، ومن الأخوة بين المهاجرين والأنصار، ومن كتابة العقود مع اليهود. . فقد كانت كذلك في الحياة الخارجية من استطلاع لأوضاع المنطقة وما يجري فيها، وخاصة ما يتعلق بقريش فقد كانت هي الحاملة للواء العداوة، وما تلك السرايا والغزوات إلا إجراء من إجراءات الأمن التي اتخذها في سبيل استمرار دولة الإسلام.
ونتابع التشريع أيضاً في هذه الفترة يأخذ بأيدي المسلمين رويداً رويداً نحو استكمال فرائض هذا الدين وتعاليمه. فبالإضافة إلى الإذن بالقتال وهو تشريع مهم في بناء الدولة نستطيع أن نذكر:
1- الصلاة:
سبق الحديث عن الصلاة وأنها فرضت مع بدء الوحي. ثم كان فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج ثم بعد الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتين، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ﷺ ففرضت أربعاً” (1).
_______________________
(1) رواه البخاري، رقم (3935)
2- الأذان:
كان المسلمون يجتمعون للصلاة إذا حان وقتها. كل منهم يسعى إليها من تلقاء نفسه دون أن يكون هناك وسيلة إعلام بذلك. ثم همّ رسول الله ﷺ أن يجعل بوقاً كبوق اليهود الذي يدعون به لصلاتهم. ثم كرهه وأمر بالناقوس فنُحت ليُضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة، النداء، فأتى رسول الله ﷺ فقال له: إني طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده فقلت له: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به، قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها ﷺ قال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله. فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتاً منك) (1).
3- تحويل القبلة:
كان رسول الله ﷺ يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس واستدبر الكعبة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً. وكان يحب أن تصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم عليه وسلم. وكان يكثر الدعاء والتضرع رافعاً يديه وطرفه إلى السماء. فأنزل الله عز وجل:
{قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
(2).
_______________________
(1) رواه أبو داود (499) والترمذي (18)
(2) سورة البقرة: الآية 144.
كان تحويل القبلة في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة بعد غزوة عبد الله بن جحش ولم يكد اللغط الذي أثارته قريش في قضية انتهاك حرمة الأشهر الحرم، الذي أنهته آية الكريمة
{يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ}
حتى نزل الأمر بتحويل القبلة فوجد المشركون واليهود مرتعاَ للحديث والنقد، وقد كان اليهود يحبون أن يظل الرسول ﷺ على قبلتهم، لما في ذلك من الاعتراف بأقدميتهم وسابقتهم، فلما جاء الأمر بالتحويل عنها ساءهم ذلك، وأشاعوا المقالات، ومنها ما قصة القرآن
{مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ۚ}
ومنها قولهم: إن كانت القبلة الأولى حقاً فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل. وجاء القرآن يحكي سفاهتهم ويرد عليهم
{سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ}
(1)
ثم بين الله الله سبحاته أن الاتجاه إلى القبلة الأولى كان مؤقتاً ابتلاء واختيار. .
{وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ}
(2).
وهكذا تظل العبادة امتثالاً لأوامر الله والتزاماً بما رسم بعيداً عن رغبات النفس أو الاكتراث بأقوال الناس. والأمر والحكم أولاً وآخراً لله
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ۚ}.
إن أمر تحويل القبلة لم يكن مجرد تغيير اتجاه في الصلاة، وإنما هي اختبار للمؤمنين ومدى التزامهم باتباع الرسول ﷺ وابتلاء لهم في مدى صمودهم في وجه الإعلام المعادي الذي حمل لواءه اليهود يومئذ باعتبارهم أصحاب كتاب، هذا الإعلام الذي يتخذ بعض الأحيان من ظاهر القول ما يبدو للوهلة الأولى أنه حق.
إنه تربية للمؤمنين توجههم إلى التزام منهج الله الذي هداهم إليه، ولئن افتقدوا الحجة والبرهان في تزييف الباطل، فينبغي أن يكون لهم من رسوخ إيمانهم بعقيدتهم ما يجعلهم قوة صلدة يتحطم عليها كل زيف.
_______________________
(1) سورة البقرة: الآية 142.
(2) سورة البقرة: الآية 143.
وجاءت الآيات بالحجج الدامغة فخرست الألسنة المبطلة. وقد بينت الآيات أن:
{وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ}
فأمر القبلة معلوم لهم من كتبهم واعتراضهم وتساؤلهم هو تمويه للحقائق ولذا وصفهم الله بالسفهاء.
{وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ}.
وفي هذه الآية البيان الواضح أن الاتجاه إلى القبلة الأولى كان مؤقتاً بالعلة وهي اختيار المؤمنين.
– إن تشوق الرسول ﷺ إلى الاتجاه إلى الكعبة كان تطلع الفطرة الصافية إلى ما قرر في علم الله مسبقاً وألمحت إليه الكتب السابقة كما قررته الآية السابقة
{لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ}.
{قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ }
وهكذا فكل الجهات لله وقدامة المكان ليست لذاته وإنما لأمر الله الذي يضفي عليه ذلك. ولقد تربى الصحابة على هذا المفهوم.
ومن هذا المنطلق وقف عمر بن الخطاب رضي الله عليه وسلم أمام الحجر وقال له: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى}
(1)
فالمطلوب من المؤمنين عدم الاهتمام بشبه الظلمة المتعنتين الذين يريدون صرفهم عن الحق والاهتمام بخشية الله التي توفر لهم التمسك بشريعته وتنفيذ أوامره.
_______________________
(1) سورة البقرة: الآية 150. وجاء في تفسيرها أن أهل الكتاب يعلمون من صفات هذه الأمة التوجه إلى الكعبة فإذا فقدوا هذه الصفة احتجوا بها.