القائمة الرئيسية

التصور الصحيح عن عالمية الدعوة

 

جاء في سيرة ابن هشام في صدد الحديث عن غزوة تبوك:

“.. وكان رسول الله ﷺ قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها. . إلا ما كان في غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك  أهبته. .” (1).

تلك سنته صلى الله عليه وسلم التي بعدت غايتها، وتحتاج إلى أخذ الأهبة وإعداد العدة. .

وتلك جزئية بنيت على إدراك عميق منه ﷺ لمنهج الدعوة وسير حركتها. فإن الغاية البعيدة والطريق الطويلة تحتاج إلى العدة المتناسبة معها، كما تحتاج إلى معرفة مسبقة بها لمن يريدون السير فيها. .

والدعوة منذ أيامها الأولى كانت واضحة المعالم بأنها دعوة عالمية، غايتها إقامة حكم الله في الأرض. . ولذلك كان الحديث في الآية الأولى نزولاً عن الإنسان جنس الإنسان.

 

{ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (2)

ولقد كان هذا المفهوم واضحاً من الأيام الأولى، يتحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم تقريراً، ويفهمه الصحابة مسلمة من المسلمات الإيمانية. .

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 2/ 516.

2. سورة العلق: الآيات 1-5.

 


فقد رأينا في حديث خباب – الذي سبق قريباً – قوله صلى الله عليه وسلم:

“وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ. .”

وفي المناقشة التي حصلت في بيت أبي طالب بين كبار قريش وبينه ﷺ قال لهم: “كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. .” (1).

كان الأمر من الوضوح لديه ﷺ ولدى أصحابه بما لا يدع مجالاً لأدنى ريبة، وإن نظرة سريعة في القرآن المكي بشكل عام لتؤكد ذلك بوضوح.

فالآيات المكية تتحدث عن الإنسان – جنس الإنسان – وتخاطب الإنسان. . بغض النظر عن وطنه وعن قومه. .

 

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٍۢ مِّن طِينٍۢ} (2).

{وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ} (3).

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} (4).

{أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ} (5).

{ يُنَبَّؤُا ٱلْإِنسَٰنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ ٱلْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌ} (6).

{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ} (7).

{َٰٓيَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ} (8).

 

____________________

 

1. سيرة ابن هشام 1/ 417.

2. سورة المؤمنون: الآية 12.

3. سورة لقمان: الآية 14

4. سورة النجم: الآية 39.

5. سورة القيامة: الآية 3.

6. سورة القيامة: الآيتان 14- 14.

7. سورة النازعات: الآية 35.

8. سورة الانفطار: الآية 6.


وقد تتعامل الآيات مع الصفات السلوكية المكتسبة للإنسان فتكون النظرة إليه إنا من خلال صفات الخير أو من خلال صفات الشر، بغض النظر أيضاً عن قومه وجنسه وأرضه وزمنه.

 

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} (1).

{فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ} (2).

{إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍۢ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ} (3).

 

وهكذا فإن التعامل مع هذا الإنسان من خلال بره وتقواه، أو من خلال طغيانه وكفره.

لقد كان واضحاً كل الوضوح في لغة القرآن المكي عالمية هذه الدعوة وإنسانية هذا الدين، فهو ليس لشعب أو لعرق أو لقوم. .إنه لجميع الناس، لا في عصر واحد وإنما على تعاقب العصور. .

ومع كل هذا الوضوح، فإن الله عز وجل أراد أن تكون هذه القضية واضحة بينة فنص على ذلك صراحة في آيات من القرآن المكي نذكر منها (4):

 

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَٰلَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} (5).

{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ  فَآمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلْأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (6).

 

____________________

 

1. سورة النبأ: الآية 31.

2. سورة النازعات: الآيات 37- 41.

3. سورة الانفطار: الآيتان 13- 14.

4. نذكر هذه الآيات بحسب ترتيب نزولها.

5. سورة التكوير: الآيتان: 27 -28.

6. سورة الأعراف: الآية 158.


 

{تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِۦ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1).

{وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2).

{إِنَّ فِى هَٰذَا لَبَلَٰغًا لِّقَوْمٍ عَٰبِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ} (3).

 

كان هذا البيان ضرورة ليعلم حجم المهمة الملقاة على عاتق المؤمنين، ليعدوا أنفسهم لذلك، وليكونوا على بينة من أمرهم.

إن هذه المهمة من الضخامة بحيث احتاجت إلى تربية خاصة ولمدة غير يسيرة وضخامة المهمة يفسر لنا الحاجة إلى طول المدة، كما يفسر لنا اختيار تلك النوعية من العدو النفسية التي اختبرت لتكون الزاد في أداء هذه المهمة.

إنها حلقات مترابطة يتمم بعضها بعضاً، ويشد بعضها بعضاً في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة. .

____________________

 

1. سورة الفرقان: الآية 1.

2. سورة سبأ: الآية 28.

3. سورة الأنبياء: الآيتان 106 – 107.

مواضيع ذات صلة