رأينا في الفصول السابقة نماذج من الخطاب القرآني الموجه إلى الرسول ﷺ. ورأينا كيف كان في أسلوب هذا الخطاب كل التكريم له، والبيان لرفيع منزلته وعظيم قدره.
ويحسن بنا أن نختم هذه الفصول ببيان الأدب الذي وجه إليه القرآن الكريم في كيفية تعامل المسلمين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في ميدان الأدب الاجتماعي.
وقد ورد ذلك في آيات:
عدم التقدم بين يديه:
قال تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(1).
قال ابن كثير: هذا أدب أدب الله تعالى به عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام. والمعنى: لا تسرعوا في الأشياء بين يديه: أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور.
______________________
1. سورة الحجرات، الآية (1).
قال العوفي: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله في شرائع دينكم (1).
“فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى، ويأذن، كما أمر الله تعالى في هذه الآية.
وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم” (2).
عدم رفع الصوت عنده:
قال تعالى:
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوٓا أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُۥ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَٰلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
(3).
أخرج البخاري في سبب نزول الآية:
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَةَ.
______________________
1. تفسير ابن كثير عند الآية الكريمة.
2. المواهب اللدنية للقسطلاني 3/ 230.
3. سورة الحجرات، الآيتان (2-3).
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ (1).
جاءت الآية الكريمة لتؤدب المؤمنين وتبين كيف ينبغي أن يكون حديثهم معه ﷺ، بل وتحدد مستوى ارتفاع أصواتهم بحيث لا يكون أعلى أو فوق صوته ﷺ وقد كان الالتزام كاملاً بتنفيذ هذا الأمر، كما هو شأنهم في كل أوامر الله تعالى.
روي أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكاً في مسجد رسول الله ﷺ، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوماً فقال:
{لَا تَرْفَعُوٓا أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىِّ}
ومدح قوماً فقال:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَٰتَهُمْ}
الآية، وذم قوماً فقال:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَٰتِ}
الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر.
وإذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجباً لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به (2)؟!.
وأخرج البخاري:
عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِمَا قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟!.
(3)
وهكذا فهم الصحابة هذا الأدب الذي أدبهم به الله سبحانه وتعالى، وهكذا طبقوه في حياته ﷺ وبعد موته.
______________________
1. أخرجه البخاري برقم (4845).
2. المواهب اللدنية 3/ 232.
3. أخرجه البخاري برقم (470).
كيفية نداء النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى:
{لَّا تَجْعَلُوا دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ }
(1).
إن الله تعالى عندما خاطب الأنبياء خاطبهم بأسمائهم، ولكنه عندما خاطب نبينا محمداً ﷺخاطبه بأسلوب آخر:
فقال عندما خاطب أنبياءه عليهم الصلاة والسلام:
{َٰٰٓٓيَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ۖ } {يَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ} .
(2)(3)
{يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ} {يَٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَٰمٍۢ مِّنَّا}.
(4) (5)
{يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَآ ۖ } {وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ}
(6)(7).
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ}
(8).
{يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِى} {يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفْ} .
(9) (10)
______________________
1. سورة النور، الآية 63.
2. سورة البقرة، الآية (33).
3. سورة البقرة، الآية (35).
4. سورة هود، الآية (46).
5. سورة هود، الآية (48).
6. سورة هود، الآية (76).
7. سورة الصافات، الآيتان (104-105).
8. سورة ص، الآية (26).
9. سورة الأعراف، الآية (144).
10. سورة النمل، الآية (10).
{يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ}
(1).
{يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ ۖ }
(2).
{يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ}
(3).
وقال عندما خاطب رسولنا ﷺ:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ}
(4).
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ}
(5).
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ} {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ}
(6) (7).
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} {يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ}
(8) (9).
وهكذا فالقرآن الكريم قد ميز الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب خاص في النداء مما يدل على خصوصية في التكريم.
ومن باب أولى أن يكون التوجيه القرآني للمؤمنين: أن لا يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضاً.
فلا يدعونه باسمه كما يدعو بعضهم بعضاً، بل يقولون في ندائهم: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع.
______________________
1. سورة مريم، الآية (7).
2. سورة مريم، الآية (12)
3. سورة المائدة، الآية (110).
4. سورة المائدة، الآية (41).
5. سورة المائدة، الآية (67).
6. سورة الأنفال، الآية (64).
7. سورة التوبة، الآية (73).
8. سورة المزمل، الآيتان (1-2).
9. سورة المدثر، الآيتان (1-2).
قال ابن عباس – كما في تفسير ابن كثير-: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه ﷺ قال: قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
استئذانه ﷺعند الانصراف:
قال تعالى:
{إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ جَامِعٍۢ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَـْٔذِنُوهُ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَـْٔذِنُونَكَ أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۚ فَإِذَا ٱسْتَـْٔذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
(1).
وهذا أدب آخر يرشد الله المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، لا سيما إذا كانوا مع الرسول ﷺ في أمر جامع ، كاجتماع في مشورة ونحو ذلك.
أدب مناجاته ﷺ:
قال تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا نَٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَٰكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَٰكُمْ صَدَقَٰتٍۢ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُوا ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ}
(2).
خلاصة المعنى الذي يفهم منها: أن الله أمر عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ﷺ – أي يساره فيما بينه وبينه – أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام.
______________________
1. سورة النور، الآية 62.
2. سورة المجادلة، الآيتان (12- 13).
وهذا جانب آخر من إشعار المؤمنين بمقام النبي ﷺ، وإكرام الله تعالى له إذ فرض على من أراد مناجاته أن يقدم قبل ذلك صدقة، هذه الصدقة التي هي إحدى الوسائل لطهارة النفس وتزكيتها، كما أشعر بذلك تتمة الآية الكريمة.
أخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
(مَا تَرَى دِينَارًا؟) قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ: (فَنِصْفُ دِينَارٍ؟) قُلْتُ لَا يُطِيقُون قَالَ: (مَا تَرَى) قَالَ شَعِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّكَ لَزَهِيدٌ) قَالَ: فَنَزَلَتْ {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} قَالَ علي: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
(1).
روى مجاهد عن علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله ﷺ تصدقت بدرهم فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية (2).
ومهما يكن من أمر، فأن معنى الآية من الاحترام والتبجيل والتقدير للنبي ﷺ قائم مستمر لم ينسخ وإنما الذي نسخ هو تقديم الصدقة وحده، تخفيفاً عن المسلمين (3).
______________________
1. تفسير ابن كثير عن الآية الكريمة.
2. تفسير ابن كثير عن الآية الكريمة.
3. الذي نسخ هو وجوب الصدقة، وهذا لا يمنع من استمرار الأمر على طريق الندب، ومن العلماء من رأى الأمر على عمومه فالمراد بالمناجاة في نظره الخطاب فلما أراد أن يدخل المسجد النبوي الشريف للصلاة فيه والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم – وكنت معه – أخرج شيئاً من المال فتصدق به ولا الآية الكريمة ثم دخل.
وهو فهم يلتقي مع فهم الإمام مالك وفهم سيدنا عمر رضي الله عنه الذي سبقت الإشارة إليها في رفع الصوت في المسجد النبوي.