×

الجهاد بين الإذن. . . والفرض

مر تشريع القتال بمراحل. فقد أُذن به بعد طول صبر في قوله تعالى:

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ . . .}

ثم فرض عليهم القتال لمن قاتلهم في قوله تعالى:

 

{وَقَٰتِلُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ}

(2)

ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة بقوله:

{وَقَٰتِلُوا ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ۚ }

(3)

وهكذا كان القتال محرماً ثم مأذوناً به ثم مأموراً به بمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين (4).

_______________________

(2) سورة البقرة: الآية 190.

(3) سورة التوبة: آية 36.

(4) زاد المعاد 3/ 71.


 

صحيح أن أنظمة الناس اليوم تقسم القتال إلى نوعين دفاعي وهجومي وهكذا يدرس علم القتال في كلياته المتخصصة. فللدفاعي وسائله وأسلوب الحركة فيه، وللهجومي كذلك أسلوب حركته. . وهذا لا مرية فيه. ولكن هذه النظرة إلى القتال تنطلق من الارتباط بالأرض، أو كما يسمونها – الوطنية – والإسلام منذ جاء، ومع المرحلة الأولى من دعوته، جاء ليحرر الناس من كل العبوديات، ومن جملتها الارتباط بالأرض وما هجرة الحبشة الأولى إلا التعبير الصادق عن ذلك. وما ذاك إلا لأن العقيدة التي جاء الإسلام بها لا حدود لها أولاً، فهي لكل الناس وهم فيها سواء، وثانياً لأن جنسية الإنسان المسلم هي العقيدة وهي غير مرتبطة بالأرض. ومن هذا المنطلق لا نستطيع أن نسمي القتال في الإسلام إنه دفاعي أو هجومي لأن هذا مرتبط بالحدود. . بينما القرآن الكريم يضع غاية لاستمرار القتال واضحة صريحة حيث يقول:

 

{وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ ۚ . .}

(1)

فالقتال مستمر حتى لا يفتن إنسان من أجل دينه – بغض النظر عن الأرض التي يعيش عليها – وحتى يكون الخضوع لله حيث تكون شريعة الله هي الآمرة الناهية.

وبهذا الفهم انطلقت جحافل الإسلام في كل الاتجاهات تزيل الطواغيت الذين وقفوا عثرة في سبيل وصول دعوة الحق إلى الناس. ولذا حينما سئل أحد هؤلاء المجاهدين فقيل له: ما جاء بكم؟ قال: جئنا لتخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله (2). . لم يكن للمسلمين يومئذ أرض هناك يدافعون عنها وإنما كانت هناك رسالة لا بد من إيصالها والقتال آخر وسيلة تستعمل لمن يحاول منع وصولها.

_______________________

(1) سورة الأنفال: الآية 39.

 

(2) هي من قول المغيرة بن شعبة لرستم في وقعة القادسية. البداية 7/ 39.


لا يعني هذا أن الإسلام لا يقيم للأرض شأناً أو وزناً. ولقد رأينا كيف ودع رسول الله ﷺ مكة وكيف كان حنين أصحابه إليها حتى دعا فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة). وفي تحديد قيمة الأرض نلاحظ قوله ﷺ

 

(يْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)

(1)

ماذا تحرس إن لم تكن حراستها للأرض؟ إن أرض الإسلام لها القيمة الكبرى في النفوس، ولكن هذه القيمة تستمدها من العقيدة. فالحفاظ عليها أمر من أوامر العقيدة. وليس ناشئاً عن الارتباط بها.

 إن أي موازنة بين قيمة الأرض في مفهوم الوطنية وبين قيمتها في مفهوم العقيدة الإسلامية يبين الفارق الكبير بينهما، فأقل ما يقال فيه أنه كالفارق بين العقيدة الإسلامية، وبين الوطنية إذا عددناها منهجاً ينظم بعض الناس شؤون حياتهم على أساسه.

_______________________

(1) رواه الترمذي.

مواضيع ذات صلة