×

الجهر بالدعوة وبدأ الاضطهاد

إعلانه صلى الله عليه وسلم بالدعوة:

كان نزول قوله تعالى:

{فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ}

سورة الحجر: الآية 94.

إيذائاً ببدء المرحلة الجديدة، مرحلة إعلان الدعوة ومواجهة الناس بكلمة الحق رضي من رضي وسخط من سخط.

إن الجهر بالدعوة – في هذه المرحلة – مسؤولية خاصة به صلى الله عليه وسلم فالأمر موجه إليه. ولذا خرج بنفسه ليؤدي هذا الواجب، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، ولم يوعز إلى المؤمنين بضرورة الإعلان عن أنفسهم ولهذا نلاحظ استمرار العمل بالسرية:

– فقد استمرت دار الأرقم تؤدي دورها حيث يلتقي المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم لينقل إليهم وحي الله ويزوِّدهم زاد التقوى ويصقل نفوسهم.

– الجهر بالدعوة أمر مرتبط بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم لا بالأفراد. ولذا بقي كثير من المؤمنين ومخفين إيمانهم حتى مرحلة متأخرة. يدلنا على ذلك قصة إسلام عمر. وكانت في السنة السادسة من البعثة، وكيف أنه لم يكن يعلم بإسلام أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد وهما من السابقين الأولين. أي ممن أسلموا في المرحلة السرية. وفي القصة نفسها أنه ذهب إلى دار الأرقم بعد أن علم ذلك من زوج أخته الذي هو ابن عمه حيث كان صلى الله عليه وسلم مع صحابته.

كان ذلك ضرورياًَ ريثما يشتد عود الدعوة ويكثر أتباعها وتكون قادرة على مواجهة الباطل بكل أساليبه.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بقومه تنفيذاً لأمر الله تعالى:

{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ}

سورة الشعراء: الآية 214.

صادعاً بما أمر الله تعالى فلم يبعد قومه منه ولم يردوا عليه.

 

روى مسلم عن أبي هريرة قال: “لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا) .

أخرجه مسلم برقم (204).

وقد تكرر مثل هذا الموقف. فقد صعد الصفا مرة ثُمَّ نَادَى يَا صَبَاحَاهْ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي لُؤَيٍّ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟) قَالُوا نَعَمْ قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.

متفق عليه (خ 4770، م 208).

ولعل عدم ردهم عليه، في بدء الأمر، كان ظناً منهم أنه واحد من أولئك الحنفاء الذين بحثوا عن دين إبراهيم. إن مواقف زيد بن عمرو بن نفيل ما تزال ماثلة في أذهانهم. قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به. ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته (1).

على أنه لم يطل سكوتهم، فما أن عاب آلهتهم حتى ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته وكان ذلك سنة أربع من البعثة.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يني ولا يفتر يقرر الحق ويبين زيف الباطل، يدعو إلى توحيد الله ونبذ هذه الأصنام المتناثرة هنا وهناك دليلاً على وهن الفكر الجاهلي وجموده وانحطاطه.

 عند أبي طالب:

كان أبو طالب على دين قريش، وينبغي أن يكون رأيه في محمد مثل رأيهم فرجعوا إليه وكلمه أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.

وما كان رسول الله سباباً ولا طعاناً ولا فاحشاً، فما عرف لسانه بذاءة القول، ولكن قريشاً وجدت في عيبه آلهتها انتقاصاً لعقولها وطعناً بآبائهم الذين عكفوا من قبل على هذه الأصنام، وكان للعصبية والتعظم بالآباء يومئذ أثره الكبير على سلوك الناس وتفكيرهم.

وتكرر رجوع قريش إلى أبي طالب. . . وهم هذه المرة يتكلمون لغة التهديد والوعيد. قالوا: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.

وعظم الأمر على أبي طالب فهو بين أمرين: إما أن يفارق قومه وتقوم العداوة بينه وبينهم، وإما أن يخذل ابن أخيه ويُسلمه، وكلامهما كان أمراً صعباً على نفس أبي طالب.

وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني في كذا وكذا. . فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

وظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته فقال: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته) ثم استعبر فبكى ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.

إن إصراراً من هذا النوع لا يمكن أن يقف في وجهه خذلان خاذل أو ضعف ناصر. وقد أدرك أبو طالب هذا المعنى وأيقن أن استمرار محمد في دعوته ليس مستمداً من اعتماده على نصرته. وكان عليه أن يختار قومه أو ابن أخيه؟ ولكنه ما له لا يحكم عصبيته في نصرة الحق في دعوة ابن أخيه إذا كان الناس يحكمون عصبياتهم في نصرة الباطل!!.

إن كلمة محمد صلى الله عليه وسلم لعمه هي كلمة الفصل. فربما كان في خلد بعضهم أنها مجال للمساومة والأخذ والعطاء. . وكأنها صفقة تجارية. ولكن الرسول الكريم أوضح بها أنه ماض في سبيله تنفيذاً، لأمر الله مهما كانت العقبات وأنه لن يوقفه عن السير فيها إلا أن يهلك دونها وبهذا يضع صلى الله عليه وسلم الموقف القدوة بين أيدي الدعاة إلى الله في الأزمان والعصور كلها.

الشغل الشاغل:

أضحت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم الشغل الشاغل للناس جميعاً في مكة، مسلمهم وكافرهم، فهي حديث البيوت والأندية، حديث الأفراد والجماعات.

المؤمنون مشغولون بتلقي ما يبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متتبعين خطاه ومترسمين أثره، والإيمان يعمر قلوبهم برسولهم وبدعوته.

والكافرون مشغولون بترتيب الخطط للقيام في وجه الدعوة الجديدة والدفاع عن آلهتهم التي باتت مهددة، وعن جاهليتهم التي أضحت في خطر. وقد هداهم تفكيرهم إلى سلوك طريقين:

– طريق يتعلق بالرسول عليه السلام. . يقوم على السخرية منه وتسفيه رأيه ورميه بالجنون والسحر. . .

– وآخر يتعلق بالمؤمنين. .  ويقوم على التعذيب والإيذاء والفتنة. . .

تكذيب وسخرية:

إن محمداً صلى الله عليه وسلم في الذروة من قريش نسباً وشرفاً، ولم لم يبعث بهذه الدعوة لكانت مكانته الأولى في مكة، فهو من هو خُلقاً وعقلاً وأمانة وصدقاً. وقريش كلها تقر بذلك. أما وقد خرج على معتقداتهم الجاهلية فقد وجدوا له في قواميس لغتهم من الأوصاف، ما يعرفون كذبه في قرارة نفوسهم وهم يرددونه.

إن الرجل الشريف ليس من السهل عليه أن يقوم مقام السخرية، وأن يهُزأ به ويوصف بالجنون والسحر، وما أشبه ذلك. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هان عليه ذلك في سبيل الله رغم ما فيه من القسوة والشدة على نفسه.

وسلاح الاستهزاء والسخرية سلاح خطير فعال ولا يستطيع تجاوزه والتغلب عليه إلا النفوس العظيمة، وأغرت قريش برسول الله سفهاءها فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون. . ورسول الله ماضٍ لأمره مظهر دعوته.

قال ربيعة بن عباد الديلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وهو يقول: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب (2).

وسلك النضر بن الحارث سبيلاً آخر في الإيذاء. وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه – إذا قام – ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس. . ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟ (3).

ولم تكن أم جميل امرأة أبي لهب أقل إيذاء من زوجها، فقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً، فجاءت وقالت: يا محمد إني أرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً. فأنزل الله عز وجل: {وَٱلضُّحَىٰ وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (4).

وعلق أبو جهل على ذكر الله تعالى شجرة الزقوم تخويفاً لهم بها بقوله: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما، فأنزل الله تعالى فيه:

{إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلْأَثِيمِ كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ}.

سورة الدخان: الآيات 43- 46.

وقال الوليد بن المغيرة: أينزل على محمد وأترك، وأنا كبير قريش وسيدها؟ ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي – سيد ثقيف – ونحن عظيماً القريتين؟ . فأنزل الله تعالى فيه:

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍۢ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }

سورة الزخرف: الآية 31.

إلى قوله:

{مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.

سورة الزخرف: الآية 31.

هذا قليل من كثير مما واجهه صلى الله عليه وسلم وهو ماض في دعوته يغشاهم في المسجد وفي أنديتهم يُذكرهم ويبلغهم المرة تلو المرة.

وقد سلكت قريش أحياناً سبيل المناقشة والمفاوضة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة يوماً فاعترضه الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة المخزومي وأمية بن خلف الجمحي والعاص بن وائل السهمي – وكانوا ذوي أسنان في قومهم – فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله فيهم:

{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْكَٰفِرُونَ لَآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}

– إلى آخرالسورة (5).

وغريب أن يسفّ عقل هؤلاء – وهم ذوو الأسنان في قومهم – هذا الإسفاف. وهل العبادة لعب؟ أم هي تجارة تجري عليها صفقات المشاركة والمضاربة. إنهم أغلقوا آذانهم عن سماع الحق وأغمضوا أعينهم عن رؤية الطريق. وسورة “الكافرون” التي نزلت في شأنهم على صغرها تعني المفاصلة الكاملة في الحال والاستقبال. فكيف يجتمع التوحيد مع الوثنية؟ إن الذي يعبد الله تعالى لا يمكن أن يرتكس ويعبد الأصنام. وإن الذي يعبد الأصنام لن يستطيع معرفة عبادة الله تعالى إلا إذا آمن به وكفر بأصنامه. . . إنهما طريقان مختلفان.

الاضطهاد والفتنة:

قلت: إن الجهر بالدعوة كان مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي المؤمنون بعيدين عن مسرح الأحداث يرقبون فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ورد قريش، على أن بعض الصحابة آثروا أن يعلنوا إيمانهم منذ اللحظات الأولى للجهر بالدعوة.

 

روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، واما سائرهم فأخذهم المشركون يعذبونهم فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. وإن بلالاً هانت نفسه عليه في الله عز وجل وهان على قومه. فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

شرح الزرقاني 1/ 267.

وقول أبي ذر: أول من أظهر الإسلام المقصود به: إعلانه وعدم الاستخفاء به.

وعلى الرغم من التعذيب الذي لاقاه الصحابة الذين أظهروا إسلامهم فقد كثر عددهم. وكانوا بين رجلين:

إما رجل له عشيرة تحميه أحياناً امتنع بها، وأحياناً كان يلقى فيها العذاب.

وإما رجل لم يكن له ذلك فأصابه الأذى والبلاء.

على أن الصحابة جميعاً كان ينالهم أذى قريش من الاستهزاء والسخرية وكان عليهم أن يتحملوا ذلك في أنفسهم. كما كان عليهم أن يسمعوا الاستهزاء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم وهم يمسكون بأعصابهم وفي نفوسهم ما فيها. . . ولكن كان عليهم أن يتجملوا بالصبر.

ولقد بالغت قريش بالتعذيب الجسدي للمسلمين وتفننت به ونوعته علها ترد هؤلاء عن دينهم. ولكن هيهات هيهات. إن الإيمان قد ملأ عليهم كل أحاسيسهم ومشاعرهم حتى هانت عليهم الدنيا وآثروا الآخرة. وقد عذر الله أولئك المعذبين فيما يقولون حينما يبلغ الجهد منهم مبلغه وتستنفذ إمكانات الصبر.

 

قال سعيد بن جبير: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله. إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولون له: اللات والعزى إلهان من دون الله فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.

ابن هشام 1/ 320.

ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله (5): وفي مثل هذا أنزل الله تعالى:

{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

سورة النحل: الآية 106

ويحسن بنا أن نستعرض بعض نماذج التعذيب وما لاقاه الرعيل الأول في سبيل هذا الدين.

آل ياسر:

كان ياسر حليفاً لبني مخزوم. أسلم هو وزوجته سمية وابنه عمار – فكانوا أهل بيت إسلام – وقد أصابهم من العذاب والفتنة ما أصاب بقية المسلمين من أمثالهم.

وكان بنو مخزوم يخرجون عماراً وأمه وأباه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم. ويمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيراهم على ما هم عليه وهو غير قادر على دفع العذاب عنهم فيقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

وقد كان كل منهم يعذب مرتين. مرة في نفسه ومرة في أهله فيكون الألم جسدياً ونفسياً في آن واحد. فهو يرى تعذيب أهله وهو غير قادرعلى شيء. كان ياسر يتحمل العذاب في جسده ويتحمل الألم والحسرة وهو يرى زوجته أم عمار تحت سياط الجلادين ويرى ابنه كذلك. . كذلك كان شعور الزوجة والابن.

وكان أبو جهل هو المشرف على عمليات التعذيب وبمقدار ما هانوا عليه فقد هان عليهم وأسمعته سمية كلمات أغلظت القول فيها له، فطعنها بحربة كانت في يده فقتلها. . وغدت سمية أول شهيد في الإسلام.

وشدد المشركون على ياسر وعمار، وقد أغاظهم أنهم لم يستطيعوا رد امرأة عن إيمانها، فمات ياسر في العذاب أيضاً، وأما عمار فقد تحمل ما شاء الله أن يتحمل حتى وصل إلى مرحلة الإعياء. . ولم يتركوه حتى نال من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جاءه يبكي، ويسأله صلى الله عليه وسلم فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد وأنزل الله تعالى:

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ}.

سورة النحل: الآية 106.

بلال:

بلال بن رباح الحبشي. كان رقيقاً عن أمية بن خلف الجمحي. وكان أمية يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في أشد البلاء: أحد، أحد. كما كان يُعطي للولدان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة، والحبل في عنقه، وصبر وصبر، فقد هان علة قومه وهانت نفسه عليه في الله عز وجل.

خباب:

خباب بن الأرت من السابقين، عذب عذاباً شديداً. فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم الرضف – وهي الحجارة المحماة بالنار – ويلوون رأسه، فلم يجبهم إلى شيء.

 

 قال خباب: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة – فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر الوجه فقال: (قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).

أخرجه البخاري برقم (3612) وسيأتي قريباً بيان معناه.

آخرون:

وممن عذب في الله صهيب بن سنان الرومي، وعامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله، وأبو فكيهة مولى أمية بن خلف، وأم عبيس، وزنيرة، ولينة جارية بني مؤمل التي كان يعذبها عمر بن الخطاب ثم يدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة فتقول: كذلك يفعل الله بك.

أبو بكر والأرقاء من المسلمين:

كان أبو بكر رضي الله عنه تاجراً من أثرياء مكة، ولم يكن يستطيع رؤية مسلم يعذب في الله، وله القدرة على إنقاذه إلا سعى إلى ذلك. ومر يوماً وأمية بن خلف الجمحي يعذب بلالاً، فقال أبو بكر لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل. ثم اشتراه وأعتقه.

وهكذا وجد أبو بكر في ماله وسيلة هامة لاستنقاذ ضعفاء المسلمين مما يعانون، فاشترى بعد ذلك: عامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة والنهدية وبنتها، ولبينة جارية بني مؤمل، وأبا فكيهة مولى أمية بن خلف.

وكان يعتق من يشتريه حتى أضر ذلك بماله وعاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة فقال: يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً. فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك. فقال أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد ما أريد الله عز وجل.

وهكذا تبرز أهمية المال وضرورته في جهاد الدعوة. ولقد كان أبو بكر السباق في هذا الميدان – وفي كل ميدان – يدفعه إلى ذلك إحساسه بالمسؤولية تجاه هؤلاء الضعفاء طالما أنه يملك ما يستطيع به فكاكهم مما هم فيه من البلاء والشدة.

وهكذا، ومنذ اللحظات الأولى لانطلاق الدعوة يبذل مال الأغنياء طلباً لراحة الضعفاء والمساكين. ولقد تعودت البشرية قبل ذلك في جاهلياتها المتعاقبة أن يستغل الأغنياء ضعف الفقراء لزياة أموالهم وتوسعة سلطانهم فتكون سعادتهم على حساب شقاوة أولئك.

إن أبا بكر بعمله هذا هو التطبيق العملي الأول لمفهوم المال وكونه وسيلة سعادة، ولكن السعادة في ظل الإسلام ليست ترفاً ولا بطراً، ولكنها عمل خير تسجله في سجلك. وما نشك أن سعادة أبي بكر وهو يرفع الظلم عن هؤلاء لم تكن تعدلها سعادة.


  1. ابن هشام 1/ 225.
  2. البداية 3/ 41.
  3. ابن هشام 1/ 300.
  4. رواه البخاري ومسلم (خ 4950، م 1797).
  5. البداية 3/ 59.

مواضيع ذات صلة