الصحيفة الظالمة وآثارها:
لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أمناً، وأن حمزة وعمر قد أسلما وأن الإسلام فشا في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، ومنعوه ممن أراد قتله، وشارك في ذلك كفارهم حمية على عادة الجاهلية.
فلما رأت قريش ذلك، أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتاباً، أن لا يعاملوهم، ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفعلوا ذلك وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة (1).
قال ابن إسحاق: فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم، إلا أبا لهب فكان مع قريش (2).
كان ذلك في شهر محرم سنة سبع من المبعث (3).
وقد اتخذ أبو طالب من الإجراءات ما هو كفيل بحمايته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم، أمر رسول الله فاضطجع في فراشه، حتى يرى ذلك من أراد به مكراً أو اغتيالاً، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه (4).
ومرت الأيام بطيئة، وشددت قريش من قبضتها، فعدت على من أسلم – ممن لم يهاجر إلى الحبشة – فأوثقوهم وآذوهم، وعظمت الفتنة واشتد الكرب، وبدأ الجهد يأخذ مأخذه من المحصورين، حتى باتت تسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من الجوع من وراء الشعب.
لقد أكلوا ما لا يؤكل وتقووا بما لا يتقوى بمثله ولكن الصبر على البلاء هو العدة في التغلب على الأزمات في أوقات المحن.
وتحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يتحمله غيره، فهو في الطعام والشراب واحد من القوم حاله كحالهم ولكنه كان يحمل هم الجميع يحزن لبكاء الصبي، وهو لا يجد ما يسكته، ويتألم وهو يرى وجوه النساء وقد فارقتها حيوية الحياة، ويتأثر وهو يرى وجوه أصحابه وأقربائه وقد فارقتها نضرتها وأثر فيها الإعياء.
وقيادة الناس في مثل هذه الظروف العصيبة ليست أمراً سهلاً ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادراً – بعون الله – أن يتغلب على ذلك كله، فهو يقوي من عزيمتهم ويحدثهم عن جزاء الصابرين.
كانت فرصة المحاصرين الوحيدة للاتصال بالناس هي موسم الحج. وما كانت المحنة لتنسيهم واجب دعوتهم بل كانوا يبذلون جهدهم في نشر عقيدتهم وما جاء به دينهم. ثم تعود الحياة بعد انتهاء الموسم إلى ما كانت عليه. .
وقام أبو لهب بأداء دوره الكامل خدمة للشيطان، وتعبيراً عن تعاونه مع الشرك، وليقف مزهواً أمام هند بنت عتبة يحدثها عن بلائه ويسائلها هل نصرت اللات والعزى؟ فتقول: نعم فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة. .
وكان من جملة بلائه أن الصحابة كانوا إذا سمعوا بالعير قادمة إلى مكة نزلوا إلى السوق ليشتري الواحد منهم قوتاً لعياله فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً. وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن لا خسار عليكم. فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يطعمهم منه. ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا. . .
ومرت سنتان أو ثلاث، كابد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ما كابدوا،. وتعلموا دروساً في الصبر جديدة ومنوعة وبذل أصحاب الأموال أموالهم وفي مقدمتهم: أبو طالب وخديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.
قلنا – في بحث الهجرة إلى الحبشة-: إن القاعدة التي يقوم عليها البناء الشامخ لا بد أن تتوافر فيها الصفات الكفيلة باستقرار هذا البناء وثباته، وبيَّنا كيف استطاعت العقيدة أن ترتفع على روابط العصبية وعلى الصلة بالأرض. ونلاحظ اليوم في محنة الحصار اختياراً آخر هو التحرر من حاجات الجسد في الطعام والجنس، وقد أثبت المسلمون عملياً قدرتهم على ذلك وهي حاجات ضرورتها أكبر وأمس من الحاجات النفسية السابقة. وهكذا ينتقل المسلمون من دورة إلى أخرى مبرهنين أن عقيدة الإيمان قدرتها عجيبة في صياغة النفس الإنسانية، إن حصاراً من هذا النوع يدوم سنتين أو ثلاثاً قادر على أن يطأطئ الرؤوس ويخضعها ولكنه لم يستطع فعل شيء سوى أنه زاد حماس المؤمنين لإرادة التغيير التي ترفع الظلم لتقيم مكانه العدل والنصف.
موقف قريش:
لا شك أن قريشاً كانت على علم بما نزل بالمسلمين والمحاصرين ذلك أنها تتبع أخبارهم لتعرف مدى نجاح مخططها. وهي تمني نفسها أن ينزل القوم تحت وطأة الجوع ويسلموا محمداً.
ولكن طول المدة وصبر المسلمين – رغم بكاء الصغار – جعل بعضهم يراجعون حسابهم وخاصة ممن لهم رحم تربطهم بالمحاصرين فكان الواحد منهم يأتي بالجمل ليلاً وقد حمل عليه الطعام حتى يصل به إلى فم الشعب فيخلع خطامه من رأسه ثم يضرب على جنبه فيدخل الشعب.
من هؤلاء حكيم بن حزام وهشام بن عمرو بن ربيعة.
وهكذا أضحت بعض النفوس تواقة إلى نقض الصحيفة وإنهاء العمل بها.
ما بين كتابة الصحيفة ونقضها:
إن شظف العيش ومرارة ضيقه لم يؤثر في سير الدعوة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً منادياً بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحداً من الناس.
ولئن منعت قريش عنه وعن قومه الطعام واللباس فهو لم يمنعهم نصحه ودعوته إلى الخير. ونعرض هنا بعض الأحداث التي يغلب على الظن أنها وقعت في هذه الفترة (5):
- جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد. فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس رجال من قريش فتكلم صلى الله عليه وسلم. فعرض له النضر فكلمه صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه. ثم تلا:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ لَوْ كَانَ هَٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ۖ وَكُلٌّ فِيهَا خَٰلِدُونَ}
سورة الأنبياء: الآية 98- 99.
ثم قام صلى الله عليه وسلم.
وأقبل عبد الله بن الزبعري حتى جلس فقال له الوليد: والله ما قام النضر لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد. وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته. فسلوه أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة – واليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس ورأوا أن عبد الله قد احتج وخاصم، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده. وأنزل تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰٓ أُولَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. . .}
سورة الأنبياء: الآية 101.
- ولقي أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك فأنزل الله:
{وَلَا تَسُبُّوا ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّوا ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۗ}
سورة الأنعام: الآية: 108.
وكف صلى الله عليه وسلم عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله.
- بلغ أبي بن خلف أن عقبة بن أبي معيط جلس إلى رسول الله يستمع منه فقال له: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه، وفعل ذلك عقبة عدو الله فأنزل تعالى:
{وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا}
سورة الفرقان: الآية 27.
إلى قوله:
{لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}
سورة الفرقان: الآية 27.
وأخذ أبي بن خلف عظماً بالياً ففته بين أصابعه وقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم – ونفخه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم أنا أقول يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا ثم يدخلك الله النار)، فأنزل الله:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُۥ ۖ قَالَ مَن يُحْىِ ٱلْعِظَٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
سورة يس: الآيتان 78، 79
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ}.
وفي مجلس من المجالس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى الوليد بن المغيرة طامعاً في إسلامه فبينما هو على ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم – وكان أعمى – فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقريه القرآن فشق ذلك على الرسول حتى أضجره وذلك أن شغله عن الوليد وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه فأنزل الله تعالى:
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ. .}
إلى قوله تعالى: {مَّرْفُوعَةٍۢ مُّطَهَّرَةٍ}
سورة عبس: الآيات 1-11.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهمكاً شديد السعي لإيمان أمثال الوليد فهم القدوة وهم المؤثرون في المجتمع المشرك وإيمانهم يعني انتهاء أزمة الحصار والانطلاق بالدعوة في ميادين جديدة. وتنزل الآيات لتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينسَ مهمته الأولى فهي التبشير والإنذار وأن التصدي للذين استغنوا بنفوذهم وجاههم وأموالهم لن يفيد. . والإقبال على المدبر غير مجد، ويبنت الآيات أن المقاييس عند الله هي تزكية النفس والانتفاع بالذكرى ولطالما ذكر الوليد فلم ينتفع. . . إنها تربية للدعاة، والطريق لا يزال طويلاً، أن لا يغتروا بظاهر الأمر وبهرج الحياة فالمقاييس عند الله ليست هذه. . .
{كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.
نقض الصحيفة:
كان هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي من أوصل الناس لبني هاشم – كما ذكرنا – وكان غير راض بالصحيفة وفكر في نقضها، فمشى إلى زهير بن أبي أمية – وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب – فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح منهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام. فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد. والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها. قال: قد وجدت رجلاً. قال: فمن هو؟ قال: أنا قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً.
وذهب هشام إلى المطعم بن عدي ثم إلى أبي البختري بن هشام، ثم إلى زمعة بن الأسود – يحدثهم بالأسلوب نفسه.
واتعدوا خطم الحجون ليلاً، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم على نقض الصحيفة. قال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدواً إلى أنديتهم. وغدا زهير – عليه حلة – فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هشام هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. .
قال أبو جهل – وكان في ناحية المسجد-: كذبت والله لا تشق.
قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابها حيث كتبت.
قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.
قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها.
قال هشام بن عمرو: نحواً من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان.
وقام المطعم ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا “بإسمك اللهم”.
الخروج من الشعب:
وخرج المسلمون، وعاد ركب الإيمان يتابع طريقه وهو أكثر صلالة وأشد عوداً متحمساً لأمر الله تعالى.
وتابع الكفر طريقه فالمسلمون الذين سجنهم أهلهم بالبيوت ما زالوا مكلبين بقيودهم ووسائل الكيد ما زالت تعد وتهيأ واستمرت الخطوط العريضة التي انتهجها المشركون تفعل فعلها:
ولنأخذ أمثلة على ذلك:
أ- في مجال الإعلام:
استمر القوم يبذلون جهودهم في إبعاد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمعوا كلامه وقد أفلحوا إلى حد بعيد ولكن الله غالب على أمره.
قدم الطفيل بن عمرو الدوسي مكة – وكان رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً – فالتقى به دعاة السوء يكلمونه في أمر رسول الله وينفرونه منه حتى قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه. حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً: فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه، فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقوله فإن كان حقاً قبلته وإن كان قبيحاً تركته.
وتبع الطفيل بعد ذلك رسول الله حتى دخل عليه بيته وسمع منه وشهد شهادة الحق (6).
والذي تشير إليه الحادثة بوضوح ذلك الهياج الإعلامي الذي كانت تثيره قريش تنفيراً من الرسول صلى الله عليه وسلم فهم:
– وقد تلقوا الرجل قبل أن يغدو إلى الحرم. وكان الذهاب إلى الحرم هو أول ما يفعله القادم إلى مكة. وذلك حتى لا يتيحوا له فرصة أي لقاء بمحمد صلى الله عليه وسلم أو الحديث إليه.
– إنهم استطاعوا التأثير على الرجل حتى جعلوه يحشو أذنيه بالقطن حتى لا يسمع شيئاً.
وهذا يلقي الضوء على سيطرة قريش على الإعلام في مكة. ولكن إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته كان أكبر من الإعلام المشرك.
ب- الاستهزاء:
كما استمر المشركون باستعمال سلاح الاستهزاء والسخرية باعتباره سلاحاً نفسياً خطير الأثر.
قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس – لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزؤون به – اذهب إليه فإنه يعديك عليه.
وأقبل الإراشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقام معه، فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل منهم: اتبعه فانظر ما يصنع. وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم باب أبي جهل، فقال: من هذا؟ قال: (محمد فاخرج). فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، انتقع لونه، فقال: (أعط هذا الرجل حقه) قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له. فخرج فدفع إليه بحقه. . وعجب القوم. . وقال أبو جهل: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بأبي وسمعت صوته حتى ملئت رعباً. ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلاً من الإبل ما رأيت مثل هامته. فوالله لو أبيت لأكلني (7).
والذي نتوقف عليه من الحادثة هنا أن القوم حينما أشاروا إلى رسول الله لينصر الرجل أرادوا أن يكون المشهد فصلاً من مسرحية مضحكة يتندَّرون بها فترة من الزمن. ولكن هيبة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أعظم مما يظنون. إرادة الله أكبر.
وبهذا الصدد نزل قوله تعالى:
{وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍۢ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ}
سورة الأنعام: الآية 10
1. فتح الباري 7/ 192 الحديث 3882 نقلاً عن ابن إسحاق وموسى بن عقبة
2. المصدر نفسه.
3. المواهب اللدنية. انظر الزرقاني 1/ 278.
4. الزرقاني 1/ 279
5. قال ابن كثير: ذكرها ابن إسحاق (هنا) وهي أمور مناسبة لهذا الوقت. ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق، البداية 3/ 95.
6. سيرة ابن هشام 1/ 382
7. سيرة ابن هشام 1/ 389