سبق الحديث أن رسول الله ﷺ لما ارتحل من قباء، وذلك يوم الجمعة، أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، فكانت أول جمعة صلاها (2).
_______________________
(2) البداية 3/ 213.
ثم كانت بعدها أول جمعة صلاها بالمدينة، حيث خطبهم ﷺ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل؛ ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) (1).
ومشروعية الجمعة والخطبة أمر عظيم في الإسلام، إذ بها يحصل توجيه المجتمع، وبها تعالج مشكلاته، ولذا كان أمرها موكلاً إلى القيادة، حيث يقوم القائد – كل أسبوع – ليوجه فيأمر وينهى، ويعظ ويحض على فعل الخير، وبهذا تكون الخطبة معالجة لأوضاع الناس خلال الأسبوع نفسه.
ولقد استطاعت هذه الفريضة أن تؤدي دورها في توعية الناس وتعليمهم وتوجيههم لما فيه خيرهم في دينهم ودنياهم.
كان ذلك يوم كان لا يرتقي المنبر إلا من هو أهل له، مستشعراً مسؤوليته أمام الله تعالى، مدركاً أن الله وضع بين يديه وقت الناس تلك المدة الزمنية من كل أسبوع، وهو مسؤول هل أحسن الاستفادة منها أم لا؟
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 500
ولهذا المعنى كان لا بد للخطبة أن تكون فاعلة في الخطيب نفسه لتكون فعالى في نفوس المصلين، وهذا ما يفسر لنا أسلوبه ﷺ في خطبه. فعن جابر بن عبد الله قال: “إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر حرب يقول: (صبحكم مساكم)، ويقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى. . .” (1).
وبهذا يستطيع التأثير والفعالية، وإذا أعوزته الفكرة إيضاحاً وبياناً لم يتعاون في استعمال يده ﷺ لزيادة الإيضاح والتقريب بالتمثيل والتشبيه كما هو واضح من نص الحديث.
تلك هي السنة في هذا الجانب الموجه من تعاليم الإسلام، ولكن الأمر آل إلى كثير من الخطباء الذين يحتفظون بخطب مكتوبة، فإذا جاء وقت الجمعة تناولوا خطبة ذلك الأسبوع حسب الترتيب، ثم صعدوا المنبر لقراءتها باردة ميتة قد جلل العفن وجهها من تقادم الأيام. وكثيراً ما تكون بعيدة عن واقع الناس، أو في غير وقتها المناسب.
ما فائدة أن تعظ المصلين، الذين أتوا إلى المسجد، فتحضهم على الصلاة، وتحض الصائمين في رمضان على الصيام، وفي مجتمع هؤلاء وأولئك من الانحراف، وفي بيوتهم من الفساد، وفي تعاملهم من مخالفة شرع الله تعالى، وفي سلوكهم الشخصي أو الاجتماعي من مخالفة للإسلام ما الله به عليم.
وما زاد الطين بلة، أن خطبة الجمعة غايتها – في كثير من بلاد المسلمين – أصبحت عملاً وظيفياً مأجوراً، فأضحت غايتها في أذهان القائمين بها، سد فراغ وملء وقت، وهذا ما جعل المنابر يرتقيها من ليس أهلاً لها ديناً ووعياً وفكراً، وباتت الموضوعات معلومة للمصلين حينما يبدأ الخطيب صدر خطبته.
_______________________
(1) صحيح مسلم برقم (867). وقد حكى عبد الله بن عمر كيف كان المنبر يتحرك بحركة رسول الله ﷺ: (. . حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول الساقط هو برسول الله ﷺ) رواه مسلم (2788).
كما أن الخطبة المكتوبة، تفقد فيها الكلمة حرارتها المستمدة من انفعال الخطيب، ويفقد فيها السامع وسيلة الارتباط بخطيبه الذي ألهته ورقته عن السيطرة على جو المصلين، فما استطاع إخضاع مشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم لما يقول، وأنى للكلمة الميتة أن تحدث أثراً؟
ألا فليتق الله الذين يصعدون منابر المسلمين، عن غير أهلية، وليتق الله الذين يصعدونهم وليتنا نعرف للجمعة دورها في تربية المجتمع فلا توكل إلا لمن هي بحاجة إليه.