×

الغيرة بين أمهات المؤمنين

الغيرة: مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص. وأشد ما تكون بين الزوجين (1).

وأصل الغيرة غير مكتسب للنساء (2).

والغيرة لا بد أن تظهر عند تعدد النساء عند الرجل الواحد، فهي نتيجة لازمة لذلك.

ولم يخرج نساء الرسول ﷺ عن هذه القاعدة، وهو أمر طبيعي، غير مستغرب، لأن أصله قائم في جبلة المرأة.

والمقصود من الحديث عن هذا الموضوع: التعرف على موقف الرسول ﷺ من ذلك وكيف كان تصرفه تجاهه. وقد سبق ذكر بعض من ذلك.

كان الرسول ﷺ مع بعض أصحابه في بيت عائشة رضي الله عنها، 

فَأَرْسَلَتْ أم سلمة إِليه بِطَعَام فِي صَحْفَةٍ فَضَرَبَتْ عائشة يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: (كلوا: غَارَتْ أُمُّكُمْ) مرتين.
ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ عائشة فَدَفَعَها إِلَى الخادم بدلاً عن الْمَكْسُورَةَ (3).

______________________



1. “فتح الباري” (9/ 320).

2. “فتح الباري” (9/ 326).

3. رواه النسائي (3966)، وأصله عند البخاري (5225).


وفي قصة أخرى:

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ فَأَخَذَنِي أَفْكَلٌ (1) فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ: (إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ) (2).

وفي قصة عند ابن ماجه: 

عَنْ عَائِشة قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَصَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا وَصَنَعَتْ لَهُ حَفْصَةُ طَعَامًا. قَالَتْ فَسَبَقَتْنِي حَفْصَةُ فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ انْطَلِقِي فَأَكْفِئِي قَصْعَتَهَا فَلَحِقَتْهَا وَقَدْ هَمَّتْ أَنْ تَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَكْفَأَتْهَا فَانْكَسَرَتْ الْقَصْعَةُ وَانْتَشَرَ الطَّعَامُ.
قَالَتْ فَجَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَا فِيهَا مِنْ الطَّعَامِ عَلَى النِّطَعِ فَأَكَلُوا ثُمَّ بَعَثَ بِقَصْعَتِي فَدَفَعَهَا إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَ (خُذُوا ظَرْفًا مَكَانَ ظَرْفِكُمْ وَكُلُوا مَا فِيهَا).
قَالَتْ فَمَا رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (3).

وَعَنْ عائشة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ) فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟) قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ) (4).

______________________


1. أفكل: رعدة تصيب الإنسان من يرد أو خوف.

2. رواه أبو داود (3568)، والنسائي (3967).

3. رواه ابن ماجه (2333).

4. رواه مسلم (2815).


تلك نماذج من قصص الغيرة التي كانت تحدث بين أمهات المؤمنين والقصص الأولى متشابهة، ولولا تسمية الأطراف في كل قصة لأمكن القول بأنها قصة واحدة. ولكنه لما كانت صاحبة الطعام في الأولى أم سلمة، وفي الثانية صفية، وفي الثالثة حفصة. . فهي قصص متكررة.

والذي ينبغي أن يسجل:

– أنه في قصتين منها كان عند الرسول ﷺ أصحابه، فلم ينفعل، ولم يعتبر أن ما حدث أمر كبير، وإنما وبكل البساطة أرجع الأمر إلى سببه المباشر فقال: (غَارَتْ أُمُّكُمْ).

وليتخيل أي قارئ لو حصل هذا الأمر عنده، ماذا سيكون تصرفه.

إنه درس في الحلم وفي حسن المعاملة وصدق ﷺ بقوله: 

(وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).

وهكذا مرت الحادثة بدون لوم أو عتاب، حتى بعد انصراف الصحابة، ولم يكن لذلك أي أثر بعد ذلك في تعامله ﷺ معهن. كما قالت: فما رأيت ذلك في وجه رسول الله ﷺ.

– إن الغيرة بعض الأحيان قد تكون شديدة، كما حدث لعائشة رضي الله عنها، الأمر الذي يتحول فيه العامل النفسي إلى عامل جسدى. فقد تملكتها رعدة هزت جسمها كرعدة من أصابه البرد الشديد، أو الخائف. .

وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يعذر صاحبها.

– ويفهم من القصة الأخيرة أن الشيطان يكون وراء هذه الغيرة. فإذا انتبهت المرأة إلى هذا الأمر استطاعت أن تفوت على الشيطان غرضه، وتظل غيرتها في إطار العامل النفسي الذي لا يتجسد في فعل قد يكون غير محمود العواقب.

– والغيرة لا تعفي صاحبتها من المسؤولية المادية، ولذلك قال ﷺ:

 (إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ) و (خُذُوا ظَرْفًا مَكَانَ ظَرْفِكُمْ. .).

إنه درس عظيم لمن عنده أكثر من زوجة، يتعلم منه كيف يتعامل مع الغيرة التي تصدر عن نسائه: سعة الصدر، والحلم، وكظم الغيظ. .

وقبل ختم هذا الفصل، لا بد لنا من الوقوف أمام مشهد آخر من مشاهد الغيرة قد لا يخطر بالبال.

قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً فَأَذِنَتْ لَهَا فَضَرَبَتْ خِبَاءً فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ ﷺ رَأَى الْأَخْبِيَةَ فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) فَأُخْبِرَ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَالْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ؟) فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ (1).

وتفصيل ما حدث أن عائشة ضربت الخباء للنبي ﷺ واستأذنته بضرب خباء لنفسها فإذن لها، ثم استأذنت حفصة النبي ﷺ بضرب خباء لها عن طريق عائشة فأذن لها. .

فجاءت زينب فأقامت خباء بغير استئذان. . وربما فعل غيرها ذلك.

فلما رأى النبي ﷺ ذلك أمر بتقويض الأخبية. .

وتساءل ﷺ: 

(أَالْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ؟) وفي رواية أبي داود: (أَالْبِرَّ تُرَوْنَ؟)

لقد رأى أن الباعث عند بعض أزواجه لم يكن هو الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله تعالى، وإن كان الأمر في ظاهره يوحي بذلك.

لقد كان وراءه بعض ذلك باعث الغيرة. . وإذا كانت الغيرة هي الباعث على العبادة، فهذه العبادة لا فائدة فيها، بل ربما كان وزرها أكبر، لأن الرياء سيكون من بعض مقوماتها.

______________________

1. رواه البخاري (2033)، ومسلم (1173).


إن العبادة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى.

ولذلك لم يسكت هنا ﷺ كما سكت في المسائل الأخرى.

وقد تجر الغيرة إلى الإثم. .

قَالَت عَائشة رضي الله عنها – في حديث لها مع النَّبِيِّ ﷺ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا تَعْنِي أنها قَصِيرَةً.
فَقَالَ النَّبِيِّ ﷺ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ) (1).

فهذا مما يحرم لأنه انتقاص لها مما لا كسب لها فيه، وهو من خلق الله عز وجل.

وهذا ميدان آخر لا ينبغي أن يكون مسرحاً للغيرة.

______________________

1. رواه أبو داود (4875).

مواضيع ذات صلة