القائمة الرئيسية

القاعدة الصلبة

 

بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى لدعوة الرسول ﷺ أن هذه الدعوة استقطبت المؤمنين الأول لتشكل منهم تجمعاً عضوياً متماسكاً يقوم على آصرة العقيدة، حيث تزول الفوارق. . ويصبح المؤمنون أخوة في الله. . المعتق والمعتق. والسيد والعبد والمرأة والرجل.

وبدا أن هذا التجمع يزداد يوماً بعد يوم. . الأمر الذي دفع قريشاً للوقوف في وجه هذا الكيان الجديد.

وهكذا “ولدت الحركة الإسلامية على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية – ممثلة في قريش – تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة “أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله” وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله، ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله ﷺ، هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله، ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية”.

“لم تكد الجاهلية. . تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجدي، وعلى القيادة الجديدة، وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى، ومن كيد، ومن فتنة”. .

“وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان، ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينوية لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله، وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان”.

“بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة” من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي، فأما العناصر التي لم يتحمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى، وكان هذا النوع قليلاً، فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين” (1).

وإنه مما زاد من صلابة هذه القاعدة، أن هذه الدعوة لم تقم على عرض المغريات من المادة والمتاع والمال، ولم تمن معتنقيها بالوعود البراقة فيما ينتظرهم من المناصب والمغانم. . لم يكن شيء من ذلك.

نعم، كان هناك وعد واحد، هو رضوان الله تعالى والجنة في الدار الآخرة. فقد مر رسول الله ﷺ بآل ياسر وهم يعذبون، فلم يكن أكثر من أن قال لهم: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم   الجنة” (2).

لقد كانت الغاية أن تنشأ هذه القلوب المؤمنة على درجة عالية من الصلابة والقوة، ولا يكون ذلك إلا بالتجرد من أمنيات النفس المتعلقة بمتاع الدنيا، وصرف ذلك كله إلى التعلق بالآخرة. .

____________________

 

1. في ظلال القرآن 3/ 1570 – 1571.

2. قال الشيخ ناصر الألباني في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة): حديث حسن صحيح.


ولقد استطاعت تلك القلوب أن ترتقي إلى هذا الأفق العالي، ذلك أنها كانت تتعامل مع الوحي غضاً، فتسمع كلمات الله تعالى تبين لها أجر الساعين إلى رضوانه. . وتبين لها ذلك النعيم الذي لا يزول.

“إن صورة الآخرة في هذا الدين بلغت غايتها من السعة والعمق والوضوح [في القرآن المكي]. . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه    فعلاً. .” (1).

إن هذه الحقيقة تفسر لنا تلك الصلابة التي تكسرت عليها عنجهية قريش. . فقد ماتت سمية أم عمار تحت التعذيب، ومات ياسر زوجها كذلك، لم يتراجعا عن إيمانهما كما كان مطلوباً منهما ذلك، إن الموت في هذه الحالة يعني أن إرادة المقهور المعذب أكبر من قوة وإرادة الطاغية الذي يقوم على فتنته، وإن قوة هذا المؤمن، وهو مجرد من كل سلاح، أكبر من قوة ذاك الطاغية على الرغم من امتلاكه لكل الأسلحة.

وهذه جارية لبني المؤمل تعلن إسلامها، وهي امرأة رقيقة، فهي ضعيفة في المفهوم الجاهلي من جهات عدة. . لأنها امرأة. . ولأنها أمة. . ولأنها. . وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك إسلامها – وهو يومئذ مشرك – وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة. . (2).

ونتساءل من الأقوى. . المرأة التي صبرت على البلاء والتعذيب حتى مل عمر، أم عمر وهو يومئذ فتى قريش ورجلها؟

إنها صلابة الإيمان.

____________________

 

1. في ظلال القرآن 3/ 1408.

2. سيرة ابن هشام 1/ 319.


 

ولقد كانت هذه الصلابة دافعاً للتأمل من قبل المشركين، إن هذا الصبر الذي تحلى به هؤلاء المؤمنون، وهذا الثبات على المنهج. . كان يدخل إلى نفوس المشركين – من حيث لا يشعرون – بالإعجاب والإكبار. الأمر الذي يدعوهم إلى النظر في هذا القيم التي يؤمن بها هؤلاء ويموتون في سبيلها.

نعم لقد استطاع الرعيل الأول من المؤمنين أن يكونوا القاعدة الصلبة التي قام عليها المجتمع الإسلامي فيما بعد. وما ذاك إلا بفضل تلك التربية الإيمانية التي كان الرسول الكريم ينشئهم عليها.

مواضيع ذات صلة