كانت قضية الأخذ بالثأر في الجاهلية قبل الإسلام عرفاً قائماً لا ينكره أحد، فإذا قتل فرد شخصاً من قبيلة غير قبيلته، فإنه وقبيلته يعد محلاً لأخذ الثأر منهم، فأي فرد تمكنت قبيلة المقتول من الوصول إليه من قبيلة القائل، فهو محل لأخذ الثأر منه.
وجاء الإسلام، فأبطل هذا العرف وجعل المسؤولية شخصية، فالقاتل هو المسؤول وحده وهو محل القصاص إذا ثبتت الجريمة عليه وأنه مرتكبها.
قال ثعلبة بن زهدم: انتهى قوم من بني ثعلبة إلى النبي ﷺ وهو يخطب فقال رجل: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة الذين قتلوا فلاناً – رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – فقال النبي ﷺ:
(لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى الْأُخْرَى)
(1).
ومفهوم الحديث: أن بني ثعلبة قتلوا رجلاً من أصحاب النبي ﷺ ثم بعد زمن جاء وفد منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الصحابة: هؤلاء بنو ثعلبة. . يذكر النبي ﷺ بأنهم قتلوا سابقاً أحد الصحابة على أمل أن يأخذ رسول الله بثأر ذلك الصحابي ممن حضر من قبيلته في ذلك الوفد، فأعلمه رسول الله ﷺ أن الذين حضروا ليسوا هم القتلة، ولا يسألون عن فعل غيرهم وإن كان من قبيلتهم.
وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تقرير هذا المعنى طول إقامته بالمدينة مدة نزول التشريع، بل إن القرآن الكريم أكد على هذا المعنى وكرره كثيراً، ومن ذلك:
قوله تعالى:
{كُلُّ ٱمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}
[الطور: 21]
_______________________
1. رواه النسائي (4848).
وقوله تعالى:
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
[المدثر: 38].
{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ }
[الأنعام: 164].
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰٓ ۗ }
[فاطر: 18].
والآيات الكريمة كثيرة في هذا الشأن.
وهذا الحكم التي تتحدث عنه الآيات الكريمة يتناول ما هو كائن في الحياة الدنيا، وفي الآخرة عند الحساب يوم القيامة.
وهذا من العدل الإلهي المطلق: أن يكون كل إنسان مسؤولاً عن عمله، ولا يسأل عن عمل غيره حتى ولو كان أقرب الناس إليه.
جاء في الحديث:
عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَبِي (ابْنُكَ هَذَا)؟ قَالَ إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ (حَقًّا)؟ قَالَ أَشْهَدُ بِهِ قَالَ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْتِ شَبَهِي فِي أَبِي وَمِنْ حَلِفِ أَبِي عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ ﷺ: (أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ) وقرأ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ } .
(1)
وآية سورة فاطر التي سبق ذكرها، تصور بعض المشهد يوم القيامة: فالنفس التي أثقلتها الذنوب تحاول أن تدعو من يحمل عنها بعض الإثم الذي ارتكبته، فلا تجد من يستجيب لها ولو كان ذا قربى وصلة بها، وذلك لأنه في ذلك اليوم، لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.
إنه حكم إلهي أن يسأل الإنسان عن عمله.
_______________________
1. رواه أبو داود (4208) والنسائي (4847) وغيرهما.
وكان من نتيجة ذلك في التطبيق في الحياة الدنيا، تقليل عدد الجرائم، وحصرها في نطاق محدود، فالقاتل يعاقب وحده، ولا علاقة لأحد من قرابته بالأمر.
بينما كان الأمر في الجاهلية: أنه إذا قتل إنسان رجلاً من قبيلة أخرى. كان لكل فرد من قبيلة المقتول أن يقتل أي فرد من قبيلة القاتل ثم ترد قبيلة القاتل بمثل ذلك. . ويستمر القتل. .
وجاء الإسلام فقضى على ذلك.
ولما لهذه المسألة من خطر في تأمين أمن المجتمع واستقراره، فقد ذكرها رسول الله ﷺ في خطبته، مذكراً بهذا الحكم ومؤكداً على الالتزام به، فكان قوله في ذلك:
(أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ).
ثم أكد هذا القول بتطبيق عملي فقال:
( أَلَا وَكُلُّ دَمٍ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ مِنْهَا دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ).
وهكذا بدأ ﷺ بنفسه، فتنازل عن الدم الذي يخصه وهو دم الحارث ابن عبدالمطلب ليبطل ذلك العرف الذميم، ويقوم مقامه الحكم الذي جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة.