القائمة الرئيسية

المسار الاقتصادي للتربية

لا أريد في هذا الفصل الحديث عن الاقتصاد كنظام، وإنما أردت بينا استعماله في هذه المرحلة – المكية – من قبل قريش كسلاح في وجه الدعوة، وبيان الموقف التربوي والعملي من قبل المؤمنين في مقابل ذلك.

الصد عن الدعوة:

سبق الحديث عن مكة، وأنها بلد تجاري، وأن أصحاب رؤوس المال هم المتنفذون فيها، ذلك أن الرئاسة لا ينالها إلا من كان قادراً على الإنفاق، فالقلة القليلة هي التي تملك المال، وبسبب تعاملها بالربا نما المال في أيديها وكثر كثرة فاحشة. . وفي مقابل ذلك لم يبق لعامة الناس إلا شظف العيش وخشونته.

وهؤلاء الناس من الأغنياء وأصحاب المكانة يغلظ عادة طبعهم ويظنون أن الناس إنما يقادون من خلال بطونهم.

ولهذا لما بدأ ﷺ دعوته إلى الإسلام واستعملت الأسلحة المتنوعة في الصد عن سبيل الله، كان من جملتها العامل الاقتصادي.

وقد كان التضييق على المسلمين في سبل عيشهم وتكسيد تجارتهم واحداً من الضغوط التي   مورست. . كما سبق وذكرت قول أبي جعل في ذلك.

ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله ﷺ من الفتيان الذين ما زالوا في بيوت أهليهم ولم يستقلوا بحياة خاصة، ولقد عذب هؤلاء بالتجويع في جملة ما عذبوا به، وقد رأينا من أمثلة ذلك ما سبق ذكره قريباً عن خالد بن سعيد بن العاص. .

وأخرج أحمد عن خباب قال: كنت رجلاً قيناً (1)، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله، لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال:  فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك. فأنزل الله تعالى:

{أَفَرَءَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا. .} (2)

وبهذا الأسلوب سارت الأمور على الصعيد الفردي.

ولكن الأمر لما تفاقم، وبدا أن أمر الإسلام ماض في طريقه. . اتخذت قريش قرارها الذي عرف في كتب السيرة باسم “خبر الصحيفة”.

قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبدالمطلب مع رسول الله ﷺ وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم (3).

وهذا الأمر وإن لم يكن يتناول جميع المسلمين، لأنه كان خاصاً ببني هاشم وبني المطلب، مسلمهم وكافرهم، إلا أن جميع المسلمين عاشوه ألماً وضيقاً، وكيف لا يكون ذلك والمستهدف رسول الله ﷺ.

____________________

 

1. القين: الحداد، وكان خباب يصنع السيوف.

2. رواه البخاري أيضاً برقم 1060 ومسلم برقم 2795 والآية من سورة مريم برقم 77.

3. سيرة ابن هشام 1/ 350.


وهكذا لم تدخر قريش جهداً في الصد عن سبيل الله وبكل الوسائل المتاحة.

التوجيه القرآني:

قرن القرآن المكي بين الصلاة والزكاة في بعض آياته، ففي سورة النمل نجد قوله تعالى:

{طسٓ ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْقُرْءَانِ وَكِتَابٍۢ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (1).

وقال تعالى في سورة لقمان:

{الٓمٓ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (2).

ويلاحظ في النصين الكريمين أن الحديث عن الزكاة كان في معرض الوصف وليس في سياق الأمر، ومن المعروف أن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ولعل هذا كان تمهيداً لذلك.

كما كثرت الآيات التي تتحدث عن الإنفاق وأجر المنفقين نذكر منها:

قوله تعالى:

 

{قُل لِّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً. .}

(3)

 

{فَـَٔاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ ۖ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}

(4).

 

____________________

1. سورة النمل: الآيات 1-3.

2. سورة لقمان: الآيات 1-4.

3. سورة إبراهيم: الآية 31.

4. سورة الروم: الآية 38.


وقوله تعالى:

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَٰرَةً لَّن تَبُورَ} (1)

ويلاحظ في أسلوب هذه الآيات الكريمة وغيرها مما ورد في هذا الصدد في القرآن المكي أنه قائم على الحض والترغيب. .

كما يلاحظ أنه لم يكن هناك تحديد لمقدار الإنفاق المطلوب بل ترك الأمر مفتوحاً ليتناسب البذل والعطاء مع قدرة المعطي من جانب ومع الحاجة المطروحة من جانب آخر.

وأراد القرآن أيضاً من المؤمنين الابتعاد عن الربا، وإن لم يكن أمر التحريم واضحاً، فقال تعالى:

{وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِىٓ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوٰةٍۢ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ} (2).

وواضح من الأسلوب القرآني أن الربا كان استغلالاً لحاجة الضعفاء وأن الزكاة ينبغي أن تكون البديل له في التعامل بين المسلمين.

التربية والواقع العملي:

وانطلاقاً من الآيات الكريمة التي تتابعت في الفترة المكية، ومن خلال الواقع المحيط بالمسلمين في مكة، كانت المعالجة العملية لأوضاع المسلمين المالية والمعاشية. وقد استعانوا على ما أصابهم بالأمور التالية والتي كان بعضها بالمبادرة الشخصية، وكان بعضها الآخر بتوجيه الرسول ﷺ  ومن ذلك:

1- الصبر: وقد تحدثت في الباب الثاني من هذا القسم عنه باعتباره العدة في أمر التربية بشكل عام، ونلاحظ هنا جانباُ من التطبيق له. .

____________________

 

1. سورة فاطر: الآية 29.

2. سورة الروم: الآية 39.


أخرج أبو نعيم عن سعد بن أبي وقاص قال: (كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله ﷺ وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومرنا عليه وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله ﷺ بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فوضعتها بين حجرين، ثم أستفها (1)، وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثاً) (2).

ولقد صبر النبي ﷺ ومن معه في حصار الشعب، حتى استثار صبرهم حمية بعض القوم من أمثال المطعم بن عدي، وهشام بن عمرو، وزمعة بن الأسود فقاموا بأمر نقض تلك الصحيفة الظالمة.

وهكذا مرن القوم على الصبر – كما قال سعد – فكان وسيلة آتت ثمارها في التغلب على الأزمات.

2- البذل والإنفاق: وما من شك بأن المؤمنين قد ساهموا مساهمة فعالة في البذل والإنفاق، كل بحسبه، تنفيذاً للتوجيهات القرآنية أولاً، وشعوراً بالمسؤولية ثانياً، ولقد رأينا كيف رد عثمان بن مظعون جوار الوليد حتى لا يتميز على إخوانه من المسلمين في الأمن، وإذا كان الأمر قد وصل بالمشاعر إلى هذا المستوى فما نعتقد أن مسلماً يومئذ يقبل من نفسه أن يبيت في حال من الشبع ومسلم آخر بحاجة إلى ما يسد رمقه ثم لا يفعل وهو قادر على ذلك.

ومن الأمثلة التي سجلتها السيرة في ميدان الإنفاق، ما بذله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تحرير الأرقاء المسلمين تخليصاً لهم من العذاب الذي أوقعه سادتهم عليهم. فأعتق بلالاً وعامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة، والنهدية، وبنتها، وجارية بني المؤمل، وأبا فكيهة مولى أمية بن خلف.

____________________

 

1. سف الدواء، يسفه سفاً، وأسفه أيضاً إذا أخذه غير ملتوت، وكل دواء يؤخذ غير معجون فهو سفوف (مختار الصحاح).

2. حلية الأولياء 1/ 93.


وقد أنفق أبو بكر في ذلك أموالاً طائلة مما أضر بماله، وعاتبه في ذلك والده أبو قحافة. .

3- جاء في إحدى روايات إسلام عمر قوله: . . لقيني رجل من قريش فقال: أين تذهب؟ إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك، قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت، فرجعت مغضباً، وقد كان ﷺ يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة، فيكونان معه، ويصيبان من طعامه، وقد ضم إلى زوج أختي رجلين. . (1).

ويستوقفنا في هذه الرواية ما ذكره عمر بن الخطاب من ضم الرجل والرجلين إلى الرجل القادر فيكونان معه ويصيبان من طعامه. .

إنه أسلوب من الأساليب في معالجة الأزمة التي كانت محدقة يومئذ، قام الرسول ﷺ بتنفيذه للتغلب على وضع محرج.

إن أحد الرجلين الذين ضما إلى سعيد بن زيد هو خباب بن الأرت، وخباب هذا لم يكن قبل إسلامه بحاجة إلى مساعدة أحد، فقد كان يعمل السيوف، والذي يبدو أنه بعد إسلامه أصابه بلاء الجاهلية كما أصاب غيره، فكسدت تجارته، وضيق عليه في مورد رزقه، وقد رأينا كيف امتنع العاص بن وائل عن وفائه دينه. . فكان بحاجة إلى المساعدة فضم إلى سعيد ريثما تمر الأزمة.

وشبيه بهذا قصة خالد بن سعيد حين منعه والده من القوت. .فانصرف إلى رسول الله ﷺ فكان يكرمه ويكون معه (2) وربما ضمه إلى بعض أصحابه كما حدث لخباب.

____________________

 

1. شرح الزرقاني على المواهب 1/ 273، وهو من رواية أسلم عن عمر عند البزار والطبراني وأبي نعيم والبيهقي، ورواه الدارقطني من حديث أنس، وابن عساكر والبيهقي عن ابن عباس وأبو نعيم عن طلحة وعائشة.

2. البداية والنهاية 3/ 32.


4- وهناك عامل آخر كانت تحسب له قريش حسابها عند الضرورة، فإنها كانت تمتنع عن إيذاء بعض المسلمين إذا كان ذلك الإيذاء يهدد مصالحها الاقتصادية، والمثال على ذلك: ما جاء في صحيح مسلم عن قصة إسلام أبي ذر فإنه لما أعلن إسلامه في المسجد الحرام ثار القوم فضربوه. . ولم يستنقذه منهم إلا العباس حين قال لهم: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم. . (1).

وبهذه الروح التي مرنت على الصبر، وبتلك النفوس التي لم تدخر وسعاً في البذل والعطاء، وبذلك التعاون الفعال، قطعت الدعوة الطريق في مرحلته الأولى. . فأثبتت نجاحها وثباتها. . وأثبتت أن هذه التربية هي التي تستطيع الوصول إلى غاياتها.

____________________

1. رواه مسلم برقم 2474.

مواضيع ذات صلة