×

المعيشة في بيوت النبي ﷺ

بعد الحديث عن سكن النبي ﷺ وبيان أثاث بيوته، يحسن بنا استكمالاً للصورة أن نتحدث عن مستوى المعيشة من حيث الطعام والنفقة.

والذي يبدو أن هذه المعيشة كانت متناسقة في تواضعها مع البيوت ومستوى تأثيثها.

ونترك الكلام لواحدة من أصحاب الشأن في هذه الموضوع تحدثنا عن ذلك. إنها السيدة عائشة رضي الله عنها.

قالت: ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة، من طعام البر ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض (1).

وقالت: ما أكل آل محمد ﷺ أكلتين في يوم، إلا إحداهما تمر (2).

وقالت مخاطبة ابن أختها عروة: إن كنا للنظر إلى الهلال، ثم الهلال. . ثلاثة أهلة في شهرين، وما اوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نار.

قال عروة: فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟

قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ﷺ جيران من الأنصار كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله ﷺ من ألبانها فيسقينا (3).

______________________


1. رواه البخاري (5416)، ومسلم (2970).

2. رواه البخاري (6455)، ومسلم (2971).

3. رواه البخاري (2567)، ومسلم (2972).


وقالت: لقد مات رسول الله ﷺ وما شبع من خبز وزيت، في يوم واحد، مرتين (1).

وقال النعمان: ذكر عمر رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي ما يجد ما يجد دقلا (2) يملأ به بطنه (3).

 وقال ابن عباس رضي الله عنهما:  كَانَ رَسُولُ اللَّ هِ ﷺ  يَبِيتُ اللَّيَالِي الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ

(4).

 

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه – وهو خادم رسول الله  ﷺ – سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ يَقُولُ مِرَارًا: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ حَبٍّ وَلَا صَاعُ تَمْرٍ) وَإِنَّ لَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ نِسْوَةٍ

(5).

 تلك هي حال المعيشة في بيوت النبي ﷺ تتحدث عنه زوجته عائشة وخادمه أنس وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهم حيمعاً، وهم ألصق الناس بهذا الشأن.

 وإذا كان عامة خبزهم خبز الشعير، كما قال ابن عباس، فيحسن بنا أن نتعرف على هذا الخبز. إنه خبز خشن حيث لم تكن المناخل معروفة، وإنما كانوا يطحنون الشعير، وينفخونه، فيطير ما طار منه، وما بقي يخبز.

______________________


1. رواه مسلم (2974).

2. الدقل: هو رديء التمر.

3. رواه مسلم (2978).

4. رواه الترمذي (2360)، وابن ماجه (3347).

5. رواه البخاري (2069)، وابن ماجه (4147).

 


ولقد صبر أزواج رسول الله ﷺ على هذه الحال، مقدرين هموم الرسول ﷺ وخاصة ما يتعلق بأهل الصفة، وهم المهاجرون الجدد إلى المدينة حيث كانوا يجلسون في صفة المسجد ريثما يؤمن لهم السكن، وكان عليه صلى الله عليه وسلم أن يؤمن لهم طعامهم. . (1).

 ومما كان يخفف عنهم ما هم فيه أن معظم المهاجرين كان وضعهم كذلك، ولكنه بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة وتوزيع غنائم حنين ودد كثير من المسلمين شيئاً من السعة، ولكن بيوت رسول الله ﷺ لم يتغير حالها، فقد بقيت على ما هي عليه.

 وزوجات النبي ﷺ هن من البشر، يتطلعن إلى ما يتطلع إليه الناس، ويرغبن فيما يرغب به الناس، ويشتهين ما يشتهيه الناس.

 وحصل أنهن اجتمعن وجئن يطالبن رسول الله ﷺ بالنفقة، أو التوسعة فيها، وجلس ﷺ واجماً.

وخرج الخبر إلى الناس. . وظن الناس أنه ﷺ طلق أزواجه.

 ووصل الخبر إلى عمر رضي الله عنه.

وجاء أبو بكر ﷺ فاستأذن على رسول الله ﷺ فلم يؤذن له. .

أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
وَالنَّاسُ بِبَابِهِ جُلُوسٌ بباب النبي ﷺ
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ.
ثُمَّ أُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَدَخَلَا وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ
 فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأُكَلِّمَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَعَلَّهُ يَضْحَكُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ زَيْدٍ امْرَأَةَ عُمَرَ فَسَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ آنِفًا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا 
فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَدَا نَوَاجِذُهُ قَالَ هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ كِلَاهُمَا يَقُولَانِ تَسْأَلَانِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ!!
فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ عن ضربهما. .
فَقُلْنَ: نِسَاؤُهُ وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ

______________________

1. انظر – إن رغبت – قصة أهل الصفة كاملة في كتاب “أهل الصفة بعيداً عن الوهم والخيال” للمؤلف. نشرته دار القلم بدمشق.


وغادر أبو بكر وعمر المجلس وهما يظنان أن القضية قد سويت.

 ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حزيناً لتصرف نسائه، ولم تكن القضية خاصة بحفصة وعائشة، ولكنها قضية نسائه جميعاً. . فاعتزلهن جميعاً. .

 ويصف لنا عمر رضي الله عنه الغرفة التي اعتزل فيها رسول الله ﷺ، وقد استأذن عليه أثناء اعتزاله فيقول: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﷺ فإذا هو مضطجع على حصير، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه. ونظرت ببصري في خزانة رسول الله ﷺ، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. .

 قال عمر – وقد تأثر بالمنظر – فابتدرت عيناي فبكيت.

ومضت الأيام. . فلما كان في اليوم التاسع والعشرين نزل فبدأ بالدخول على عائشة رضي الله عنها.

 فقال: (يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمراً، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك).

قالت عائشة: وما هو، يا رسول الله؟

 فتلا عليها قوله تعالى: 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 28- 29].

 قالت عائشة: قد علم والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقة، قالت: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَت:  وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ.
قَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا..)

ثم فعل مثل ذلك مع بقية أزواجه، فكان جوابهن مثل جواب عائشة رضي الله عنها.

كان لهذا الحدث في حياة أمهات المؤمنين أثره الكبير، كان قطعاً لأمالهن في الحياة الدنيا وزينتها.

 لقد وضح لهن اليوم ما كان غائباً عنهن، إنهن زوجات الرسول، ورفيقات دربه، وقد اختارهن الله لهذه المهمة من بين النساء. .

 وإذا كان الرسول ﷺ أسوة للناس، فينبغي أن يكون بيته أسوة للبيوت، وأن يكون أزواجه على قدر من الفهم الرفيع الذي يتناسب مع المقام الذي اختاره الله لهن.

 لقد كن – قبل نزول التخيير – في حياة قاسية، قبلن بها من باب القناعة بالواقع، ولكنهن بعد نزول آيات التخيير، يقبلن على هذه الحياة بالإرادة الكاملة، والرضى القلبي، يدفع إليه حب الله ورسوله ﷺ.

 إنه لفرق كبير بين ما قبل التخيير وبين ما بعده، إنهن اليوم – ولهن كل عواطف النساء ورغباتهن – يتنازلن بإرادتهن إيثاراً لما اختاره الله لهن. . (1).

______________________


1. وانظر بتفصيل أوسع “من معين السيرة” للمؤلف تحت عنوان “تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه”. وكل ما ورد في هذا الموضوع هو في “الصحيحين” أو أحدهما.


ذلك هو شأن الطعام وأمر المعيشة في أبيات رسول الله ﷺ حتى آخر حياته صلى الله عليه وسلم. . وقد ظل أزواجه رضي الله عنهن متقللات من الدنيا بعده، كما تدل سيرتهن على ذلك. . فقد انفقت أم المؤمنين عائشة آلاف الدراهم في يوم واحد ونسيت أن تحتفظ بدرهم واحد لتشتري ما تفطر عليه وكانت صائمة. . وكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها في حادثة مشابهة. . 

مواضيع ذات صلة