القائمة الرئيسية

الهجرة الأولى إلى الحبشة

اشتد البلاء على المسلمين، وآلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد وسيلة لحمايتهم، وأنه لا يقدر على دفع ما ألم بهم من البلاء والشدة.

 ما كان يملك غير كلمات الإيمان تسحذ الهمم وتشد الأزر وتمنح القوة على الصبر. إن الصبر هو العلاج المهم في مثل تلك الظروف العصبية.

 على أن الصحابة بشر يصيبهم ضعف البشر ولقد رأينا كيف جاء خباب يشكو إلى رسول الله طالباً منه الدعاء، ويحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألماً من شدة البلاء على أصحابه، وما كان خباب ليأتي وعنده قدرة على الاستمرار في التحمل. فقد كان التعذيب يصل ببعضهم إلى الموت كما حدث لسمية وزوجها ياسر.

 وكان على رسول الله أن يطيب خاطره ويعطيه دفعة جديدة في الصبر على البلاء فضرب له أمثلة من فعل أتباع الأنبياء السابقين (قد كان من كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. . .) إنه درس عظيم في تحمل البلاء والصبر عليه. إنه من واقع الحياة في درب الإيمان، ثم يبين له ما يطمئنه وهو مجيء ذلك اليوم الذي يسير في الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله. . . إنه الأمن الذي ينشده الصحابة ليستطيعوا تأدية عبادتهم وشعائرهم باطمئنان.

إن صورة المستقبل واضحة كل الوضوح في ذهن الرسول الكريم مثله في ذلك مثل مهندس البناء، بين يديه المخطط، إنه في تصور دقيق لكل الجزئيات، ولكن كل شيء يأتي في حينه أثناء التنفيذ. وإن إرساء القواعد هو العمل الأهم. وكثيراً ما تحدث الرسول الكريم عن المستقبل فجاءت الوقائع مصداق ما قال، كان لا بد من الصبر. ولكنكم تستعجلون.

 ومع هذا كان لا بد من حل، فالرسالة التي يحملها الرسول الكريم هي للناس وهي العلاج لقضية الإنسان. الإنسان في واقعه وضمن حدود إمكاناته ومن المعالم الكبرى لهذه الرسالة أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وكان الحل في قوله صلى الله عليه وسلم:

(لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه).

وخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، والمهاجرون هم (1):

– عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

– أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو.

– الزبير بن العوام.

– مصعب بن عمير.

– عبد الرحمن بن عوف.

– أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة.

– عثمان بن مظعون.

– عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة.

– أبو سبرة بن أبي رهم.

– سهيل بن بيضاء.

واستقر هؤلاء في الحبشة في ظل الأمن والاطمئنان. ويبدو – كما تقول بعض الروايات (2) – أن قريشاً حاولت استرجاعهم ولكنهم فاتوها، ولم تعدم قريش الحيلة. فقد أرسلت للمهاجرين خبراً كاذباً مفاده أن هدنة قامت بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش. وأقبل المهاجرون سراعاً من الحبشة. ولكنهم سرعان ما تبين لهم كذب الخبر وكانوا دون مكة بساعة من نهار. فدخلوها ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار (3). وكان ذلك في شوال سنة خمس للبعثة (4).

ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى إيذاء المشركين للمسلمين – وهو آمن – رد عليه جواره، وبينما هو في مجلس لقريش وفد عليهم لبيد بن ربيعة قبل إسلامه فقعد ينشدهم من شعره فقال:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد: وكل نعيــم لا محالة زائــل

فقال عثمان: كذبت نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد: متى كان يؤذي جليسكم يا معشر قريش. فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره فقال: قد كنت في ذمة منيعة فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة. فقال الوليد: فعد إلى جوارك فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى.

كان من الصعب على عثمان بن مظعون أن يتميز على إخوانه ممن هم تحت التعذيب ووجد أن السياط التي تدمي الجلد وتمزقه هي أقل على نفسه مما يعانيه حينما يكون في العافية وإخوانه في الشدة. إنها أولية من أوليات هذا الدين أن تكون جماعته كتلة واحدة مثلها مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى – كما مثل صلى الله عليه وسلم-. “إن عينه الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة” تلك مفاهيم جديدة لم تسمع بها قريش قبل الآن. إنها مقاييس جديدة في الفقر والغنى. . في الراحة والتعب. . إن الغنى رصيد من الثواب يدخر عند الله. . إن عينه الأخرى بحاجة إلى رصيد عند الله يعدل رصيد أختها.

إن دعوة هذا بعض رصيدها من المفاهيم لن تقهر ولن تغلب. ولن يقف في وجهها – بإذن الله – شيء طالما يحسه الناس ويشاهدونه كما فعل الصحابة الكرام.

وقد يتساءل بعضهم: لماذا لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل عثمان، والرسول هو القدوة، وهو الأحق بكل مكرمة؟.

وإن أدنى تأمل لهذا الموضوع يضع يدنا على الجواب: إن الرسول الكريم هو حامل الرسالة والمأمور بتبليغها، وقد هيأ الله أبا طالب لحمايته ولو خضع الرسول الكريم لما أصاب بعض الصحابة من العذاب كان ذلك عائقاً عن أداء المهمة وتبليغ الرسالة. وحينئذ تتوقف حركة الدعوة كاملة، أما حين يصاب واحد من المؤمنين فإن الدعوة لن تتوقف. وقد أدرك الصحابة هذا المفهوم. وانبثقت كلماتهم التي تعبر عن ذلك في ثنايا الوقائع والأحداث. . “كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله”، “ماذا فعل رسول الله؟”. “إياكم أن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف..”.

تلك بعض كلمات الصحابة في الأزمات. على أن الرسول الكريم لم يكن بمعزل عن البلاء والتعذيب. وسوف نذكر ذلك في حينه في بحث قريب إن شاء الله.

 


  1. وكانت في شهر رجب سنة خمس للبعثة.
  2. ابن هشام 1/ 321.
  3. شرح الزرقاني 1/ 271.
  4. شرح الزرقاني 1/ 270.

مواضيع ذات صلة