إن وصف أمور الغيب بدقة لا يكون إلا ممن رآه أو سمع من رآه، ولذلك يمكن القول: إن وصف النبي ﷺ لربه وللملائكة وللجنة والنار وصف عجيب، لا يمكن أن يأتي به بشر.
فوصف النبي ﷺ لله سبحانه وتعالى وصف خال من التنقص، مليء بكل كمال واجب لله سبحانه وتعالى (1)؛ فيصفه بالقدرة المطلقة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة والحياة الكاملة، وغير ذلك من الأسماء والصفات، فسماه بأحسن الأسماء، ووصفه بأجمل الأوصاف:
{وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ}
[الأعراف: 180]
و(الحسنى) أفعل تفضيل مؤنث من الحسن، يعني: أن لله أحسن الأسماء،
{وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلْأَعْلَىٰ }
[النحل: 60]
والمثل في هذا السياق يعني: الصفة؛ كقوله تعالى:
{مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ}
[محمد: 15]
يعني: أن له – سبحانه أعلى الأوصاف.
وهذا الوصف لا يمكن لمخلوق أن يتصف به
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ ٱلْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
[النحل: 74]
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا}
[البقرة: 22]
{وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدٌۢ}
[الإخلاص: 4]
{لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ ۖ }
[الشورى: 11]
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُۥ سَمِيًّا}
[مريم: 65]
فهو سبحانه وتعالى لا مثل له ولا ند له ولا كفو له ولا سمي له.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: كتاب “الله أهل الثناء والمجد”، د. ناصر الزهراني، مؤسسة الجريسي، الرياض، الطبعة الأولى، 2000م فهو جيد في هذا الباب.
ولكن انظر إلى البشر إذا أرادوا أن يصفوا الله ماذا يقولون (1)، فبعضهم يجعل الإله حيواناً كمن يعبد البقر أو الفأر، وبعضهم يجعله جماداً كمن يعبد الأصنام والنار، وبعضهم يعدد الآلهة كالمجوس الذين جعلوا إلهاً للظلمة وإلهاً للنور، والإغريق الذين جعلوا إلهاً للحب وآخر للرزق وثالثاً للكواكب، وفي ضمن هذا تنقص واضح، كأنهم يقولون: إن إلههم لا يستطيع أن يحوي جميع هذه القدرات، وبعضهم يعبد ما هو أقبح من ذلك كالفروج، بل بعضهم شطح عقله حتى عبد عدو الإنسانية الأول إبليس، ولكن لنرتفع عن هذه الديانات ونذهب إلى الرسالات السماوية، ونرى كيف وصف أصحابها الرب سبحانه وتعالى.
أمام اليهود فهم من أجرأ الناس على مدار التاريخ على الجبار سبحانه وتعالى، فقد قالوا:
{إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}
[آل عمران: 181]
وقالوا:
{يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }
[المائدة: 64]
يعني: بخيل (2)، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: هداية الحيارى، لابن القيم، فصل: ثمرة إنكار النبوات جحد الخالق والجهل بأسمائه وصفاته (ص 354). ولقد ألف عباس محمود العقاد كتاباً حافلاً بعنوان: “الله”، تكلم فيه عن وصف الله تعالى في الأديان والأفكار والشعوب المحرمة من نور الوحي، فذكر وصف الله تعالى عند الحضارات السابقة في مصر والهند والصين وفارس وبابل واليونان، وفي الأديان السماوية كاليهود والنصارى، وعند الفلاسفة، وغير ذلك، وهو كتاب مفيد، طبعته دار نهضة مصر، في القاهرة، الطبعة الثانية، 1997م، وبالمقارنة بين هذه الأديان وبين وصف النبي ﷺ ربه يتضح الفرق بين الوصفين، ويتبين لك أن هذا الوصف لا يتأتى إلا لمن كان مؤيداً بالوحي.
(2) انظر: فتح القدير، للشوكاني (2/ 60).
وقال ابن القيم رحمه الله: “وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم، ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل، التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة، الذي يضرب المثل به في قلة الفهم، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد، كيف عبدوا مع الله إلهاً آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم، وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي يبين أظهرهم لم ينتظروا موته، وإذا قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم، بل من الجواهر الأرضية، وإذا قد فعلوه يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها، كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار، عالة عليها، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعاً من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه ويُسقى عليع بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير؛ فأي معرفة لهؤلاء بمبعودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟! وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلهاً، فيعبد إلهاً مجعولاً بعدما شاهد تلك الآيات الباهرات؛ أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ولا قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولا قتلوا نفساً وطرحوا المقتول على أبواب البرءاء من قتله، ونبيهم حي يبين أظهرهم، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحاً ومساء، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس، ولو عرفوا معبودهم لما
قالوا في بعض مخاطباتهم له: “يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام” ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتله0م وحبسهم ونفيهم، ولما تحيلوا على تحليل محارمه، وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل. . .” (1).
إلى آخر تلك السلسلة من الشتائم التي لم يقلها حتى عباد الأصنام لآلهتهم.
وأما النصارى الذين هم أحسن حالاً من اليهود وأقرب لنا منهم، فقد اجتمع أكثر من ألفي عالم من علمائهم في مؤتمر الأمانة – ويسميه علماء الإسلام مؤتمر الخيانة (2) – ليحددوا عقيدتهم في الله، فنسبوا لله – سبحانه وتعالى – كما يقول ابن القيم – أفعال الحمقى والمجانين (3) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فول أن ملكاً غضب على شعبه بسبب ذنب واحد، ارتكبه رجل واحد، ثم حاول شعبه إرضاءه بكل سبيل فلم يفلح، ثم قال لهم بعد أزمان طويلة: إذا أردتم إرضائي وذهاب غضبي، فإني أرسل لكم ابني فاضربوه وأبصقوا في وجهه واقتلوه، فعندها فقط أرضى عليكم. من يفعل هذا الفعل؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هداية الحياري من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص 357- 359).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 366).
(3) انظر: هداية الحيارى من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص 323).
فالنصارى يقولون: إن الله غضب على البشرية بسبب خطيئة آدم، فلم يرض عن البشرية مع من فيها من الأنبياء والمرسلين إلا بعد أن أرسل ابنه إلى البشرية، فلم يزل غضبه مستمراً حتى قاموا بضرب الابن وصفعه والبصق في وجهه وصلبه، ووضع الشوك على رأسه، وتسمير يديه باللوح، وإبقائه مصلوباً حتى مات؛ عندها فقط رضي عن كل البشر، وسامحهم على تلك الخطيئة تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأيضاً وصف النبي ﷺالملائكة وصفاً عجيباً؛ فهم جند الله والقامون بأمره، العابدون لربهم في كل وقت لا يفترون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون بل يسبحون الله الليل والنهار لا يسأمون، أين هذا من وصف الكفار لهم بالإناث وغير ذلك؟!
ووصف الجنة وصفاً هو في غاية من الدقة والاستثارة والتشويق، بحيث لا تتمالك نفسك إذا سمعت هذا الوصف أن تقول: اللهم اجعلني من أهلها ولا تحرمني دخولها (1). لكنك عندما تسمع لكثير من الفلاسفة في وصف ما سموه بـ “المدينة الفاضلة” ستضحك من قصور وصفهم، وسذاجة تفكيرهم، وسترى البون الشاسع والفرق الواسع بين وصف النبي ﷺ لم يأت به من عنده بل من الوحي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وكانت رسالتي في الماجستير بعنوان: اليوم الآخر في القرآن”، وعقدت فيها فصلاً عن الجنة، ووصفها استغرق مائة وسبعاً وثلاثين صفحة (من 521 إلى 658)، وقد طبعتها – بفضل من الله – دار الجديد النافع في الكويت.
وأما وصفه النار وصف بليغ، يقذف في قلبك الخوف والفزع والرهبة من هذه الدار. يقول جفري لانغ: “عندما يترجم كتاب مقدس إلى لغة ما، فإنه ينجم عن ذلك ضياع كبير في المعنى، ولكن إذا كان دافع المترجم الالتزام والتقوى فقد يشع في النص المترجم بيرق مقدس، لا يمكن أن تقيده حدود الإنسانية، وعلى الرغم من أن القرآن بالتأكيد هو أشد تأثيراً على القارئ في اللغة الأصلية (العربية) من الترجمات، إلا أن شيئاً من الروعة والرهبة والجمال والإشراق من التصوير الفني القرآني قد يحيا في الترجمة، ليثير في النفس انعكاساً عميقاً، كالمشاهد التصويرية والمرعبة للنار على سبيل المثال. . .” إلى أن قال: “وعلى الرغم من أن جميع معتنقي الإسلام الغربيين مجبرون على الاعتماد على التفسير للقرآن، إلا أني واثق من أن جميع هؤلاء قادرون على التمييز والانتباه إلى أن أكثر ما يثير الإعجاب بالقرآن هو أسلوبه الأدبي؛ لأنه يغرس في قارئه ذلك الشعور غير الملموس من أنه صادر عن وحي سماوي” (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصراع من أجل الإيمان، لجفري لانغ (ص 81).