جاء في آخر الخطبة بحسب حديث جابر رضي الله عنه، قوله ﷺ:
(قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ)؟
قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ.
فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ: “اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ” ثلاث مرات.
وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قوله ﷺ:
(إِني تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ).
والحديثان يؤكدان على أمر واحد، هو الاعتصام بكتاب الله، والعمل بسنته ﷺ هو بعض الاعتصام بكتاب الله تعالى، لأننا مأمورون فيه بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وبطاعته.
وأولى الخطوات في طريق الاعتصام بكتاب الله، هي الصلة اليومية الدائمة به، فقد كان له ﷺ حزب يقروه، ولا يخل به.
وقد أوصى صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمرو بن العاص أن يقرأ القرآن في شهر.
والمهم أن تكون الصلة دائمة، فيكون للمسلم جزء من القرآن يقرؤه بحسب ما يستطيع.
وحتى تكون التلاوة نافعة يحسن بنا أن نستمع إلى كلام ابن القيم رحمه الله في ذلك:
“إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله ﷺ، قال تعالى:
{إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
[ق: 37].
والتلاوة الحقة هي التي أثنى الله على أهلها في قوله تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَٰرَةً لَّن تَبُورَ}
[فاطر: 29]
وقوله تعالى:
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ}
[البقرة: 121].
والمعنى: يتبعون كتاب الله حق اتباعه.
وقال تعالى:
{ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ}
[العنكبوت: 45].
{إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَىْءٍۢ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا ٱلْقُرْءَانَ ۖ }
[النمل: 91 -92].
فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى.
فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة.
وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع.
يقال: اتل أثر فلان، وتلوت أثره، بمعنى تبعته خلفه، ومنه قول تعالى:
{وَٱلشَّمْسِ وَضُحَٰهَا وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَٰهَا}
[الشمس: 1-2]
أي: تبعها في الطلوع بعد غيبتها.
والتلاوة الحقيقية: هي تلاوة المعنى واتباعه، تصديقاً بخبره، وائتماراً بأمره، وانتهاء عن نهيه، وائتماماً به، حيث قادك انقدت معه.
فتلاوة القرآن: تتنازل تلاوة لفظه ومعناه.
وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة.
وبالجملة: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فهو الذي يورث: المحبة، والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب.
وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة.
فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر.
وهذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية إلى الصباح.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قام بآية يرددها حتى الصباح، وهي قوله تعالى:
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}
[المائدة: 118] (1)
هذا ما قال الإمام ابن القيم، وهو كلام نفيس.
وقد سبقت إلى هذا الفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ”.
أي: إنه صلى الله عليه وسلم كان ينفذ كل ما جاء في القرآن من أوامر، وينتهي عما نهى عنه. . أي: إن قراءته للآيات الكريمة تتحول إلى سلوك.
ونعتقد أن هذه ما قصده صلى الله عليه وسلم بوصيته بكتاب الله تعالى والاعتصام به، وهل يكون الاعتصام إلا بالقيم والثوابت التي جاءت فيه.
_______________________
1. “الهدي النبوي في الفضائل والآداب” (33- 36)، نشره المكتب الإسلامي..
وإنما آخر ﷺ هذه الوصية إلى آخر خطبته، لأن العمل بها يحقق كل ما سبق من التوجيهات والأوامر في الخطبة.
ثم ختمها بإشهاد الله تعالى أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، بعد أن شهد له الصحابة بذلك رضي الله عنهم.
وبعد:
فتلك كانت خطبته ﷺ في حجة الوداع، توقفنا عند الخطوط العريضة والرئيسة فيها، وحق على كل مسلم أن يعود إليها مرة بعد مرة ليتذكر ما ورد فيها. .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته (فليبلغ الشاهد الغائب) (1).
_______________________
1. رواه البخاري (1739)