الوضع السكاني:
كانت المدينة سكناً للأوس والخزرج، وعلى طرفها الشرقي قامت حصون اليهود الثلاثة، حصن بني قينقاع، وحصن بني قريظة، وحصن بني النضير، هذه الحصون التي يأوي إليها اليهود ليلاً، وينتشرون في النهار فيكونون مع أهل المدينة، أو يكون أهل المدينة في أسواقهم.
وكانت هناك وقائع في الجاهلية بين الأوس والخزرج وكان آخرها يوم بعاث، وكثيراً ما كان اليهود يحركون الشر بين الطرفين. .
وجاء رسول الله ﷺ إلى المدينة وجاء معه المهاجرون. .
وبهذا يدخل عنصر سكاني جديد هو المهاجرون، وتغير الوضع الجاهلي فأصبح المؤمنون من الأوس والخزرج أخوة في الإسلام وحملوا اسم “الأنصار” وأما من لم يسلم من الأوس والخزرج فهم “المشركون”.
وليس بين أيدينا إحصاءات دقيقة عن عدد المهاجرين، ولكن غزوة بواط، التي كانت في شهر ربيع الأول من العام الثاني للهجرة، كان عدد المجاهدين فيها مائتين، وجميعهم من المهاجرين، وهذا الرقم ليس أكثر من مؤشر، إذ لم يكن الخروج إلى الجهاد يومئذ فرضاً، وهذا يعني أنه لم يخرج في هذه الغزوة جميع المهاجرين من الرجال، والأمر الثاني: هو أن هذا الرقم لا يشمل النساء والأطفال وغيرهم ممن ليس لهم قدرات قتالية.
ومهما يكن من أمر، فإن نضمام المهاجرين إلى المؤمنين من الأوس والخزرج جعل نسبة من بقي منهم على شركة قليلة.
وهكذا أضحت غالبية السكان في المدينة من المؤمنين، وساد الجو الإيماني، وأما المشركون فقد ظلوا على شركهم لا يضايقهم أحد، وأما اليهود فقد ضبط الكتاب الذي سبق ذكره علاقتهم بالمسلمين، كما ضمن لهم حريتهم الدينية.
تتابع وصول المهاجرين:
نعتقد أن الرسول ﷺ لم يخرج من مكة مهاجراً إلا بعد أن كان معظم المسلمين من أهل مكة قد سبقوه بالهجرة، ولم يبق إلا من حبس، أو من حالت بينه وبين الهجرة أمور ينتظر زوالها.
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم – بعد وصوله إلى المدينة – زيد بن حارثة، وبعث معه أبا رافع مولاه، وبعث أبو بكر معهما عبدالله بن أريقط. . بغية إحضار آل النبي صلى الله عليه وسلم وآل أبي بكر. . (1) وقدم معهم طلحة بن عبيدالله، الذي كان في تجارة ببلاد الشام عند هجرته ﷺ (2).
وذكر ابن كثير في تفسيره أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى (3) من مكة حتى يأتي بهم المدينة. . (4).
____________________
1. آل النبي ﷺ: فاطمة، وأم كلثوم، وسودة بنت زمعة، وأم أيمن وأسامة وآل أبي بكر رضي الله عنه: أم رومان، وعائشة، وأسماء امرأة الزبير [انظر حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 369 نقلاً من الاستيعاب].
2. طبقات ابن سعد 3/ 215.
3. المقصود هنا:ضعاف المؤمنين الذين لم يقدروا على الهجرة.
4. في تفسير الآية الثالثة من سورة النور.
وفي شهر شوال من السنة الأولى خرج المقداد بن عمرو، وعتبه بن غزوان – وكانا مسلمين – مع أبي سفيان في قافلة تجارية. وقد التقت هذه القافلة بسرية عبيدة بن الحارث مع ستين من المهاجرين في بطن رابغ. . وفر المقداد وعتبة إلى صف المسلمين (1).
وهكذا كانت تبذل الجهود، وبأساليب متعددة، بغية استكمال هجرة من لم يهاجر.
وإلى هذا تشير سورة الأنفال التي نزلت بعد بدر في قوله تعالى:
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنۢ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَٰهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰٓئِكَ مِنكُمْ ۚ } (2).
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
لم تكن الهجرة محببة إلى نفوس المهاجرين، ولذلك احتاجت نفوسهم إلى إعداد مسبق، كما أوضحت ذلك في القسم الثاني من هذا الكتاب.
ومع ذلك لما وصل القوم إلى المدينة وأصابتهم فيها حمى يثرب، تذكروا مكة، وتجاوز هذا التذكر حديث النفس، ليكون كلاماً على اللسان، فهذا بلال بعد أن صحا من الحمى يرفع عقيرته وينشد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بـواد وحــولي إذخـر وجليل
وهل أردن يـوماً ميـاه مجنـة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وأخبر رسول الله ﷺ بذلك فقال:
” اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِها وَفِي مُدِّها. .” (3).
وإزاء هذا الشعور النفسي بالغربة، والحنين إلى مكة، في نفوس أصحابه كان لا بد من عمل يخفف عنهم بعض هذه المعاناة فكانت المؤاخاة.
____________________
1. سيرة ابن هشام 1/ 592.
2. سورة الأنفال: الآية 75.
3. أخرجه البخاري برقم 3926.
فقد آخى بين أصحابه ﷺ ليذهب عنهم تلك الوحشة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، وليشد بعضهم أزر بعض. . وهذا ما ألمح إليه ﷺ بقوله مخاطباً الأنصار:
“إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم” (1).
“ولئن كان الخط العريض للمؤاخاة، أنها بين المهاجرين من جانب، وبين الأنصار من جانب آخر، فإن هذا لم يمنع أن تكون بعض هذه الأخوة بين المهاجرين بعضهم مع بعضهم الآخر، ذلك أن الغاية من تعيين هذه الأخوة. هو تحديد المسؤولية في المواساة والنصرة والرفادة، وواضح أن بعض المهاجرين كان أحسن حالاً – من الناحية المادية – من بعضهم الآخر”.
“وقد كان لهذه الأخوة أثرها البعيد حتى كان التوارث يقوم على أساسها دون القرابة، قال ابن عباس:
(كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي ﷺ بينهم. .) (2)، واستمر العمل كذلك حتى نزل قوله تعالى: {وَأُولُوا ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍۢ فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ ۗ } (3) حيث رد الميراث إلى ذوي الأرحام وبقيت النصرى والرفادة” (4).
وقد ظل لهذه الأخوة أثرها في نفوس المؤمنين حتى آخر حياتهم، فقد أرسل عمر بن الخطاب إلى بلال – رضي الله عنهما – وكان مقيماً في الشام مجاهداً يسأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان رسول الله ﷺ عقد بيني وبينه” (5).
____________________
1. أورده ابن كثير في تفسير الآية التاسعة من سورة الحشر.
2. رواه البخاري في كتاب الفرائض.
3. سورة الأنفال: الآية 75.
4. عن كتاب (من معين السيرة) للمؤلف الطبعة الثالثة ص 177 – 179.
5. سيرة ابن هشام 1/ 507.
وإذا كان من شيء نذكره هنا فهو عظمة حكمة الرسول ﷺ، فهو لم ينكر عليهم ذكر وطنهم الأول. وقد قال كلمته في ذلك (1)، ولكنه اتجه إلى الله تعالى يسأله أن يحبب إليهم المدينة، وفكر في إيجاد البديل فكانت “الاخوة”.
وهي في بعض معانيها – في مطلع العهد المدني – تأكيد عملي للارتقاء بهذه الرابطة الإيمانية فوق جميع الروابط الأخرى بما فيها النسب، وهكذا يتحقق في واقع الحياة العملي المعنى الذي يسعى إليه هذا الدين.
بناء المسجد:
كان ﷺ بعد قدومه إلى المدينة يصلي حيث أدركته الصلاة، وكان يصلي في مرابض الغنم. . ثم أرسل إلى بني النجار، فاشترى منهم الأرض التي بركت فيها ناقته تجاه دار أبي أيوب الأنصاري، حيث نزل صلى الله عليه وسلم.
وقد سويت الأرض، بعدما نبشت قبور المشركين التي كانت فيها، كما قطع الشجر الذي كان فيها. . وبدأت عملية البناء. . بسيطة متواضعة، الجدران من اللبن، والأعمدة من جذوع النخيل والسقف من الجريد. .
كانت تكاليف مواد البناء زهيدة، أما العمل فقد قام به النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يساعده أصحابه الكرام الذين كانوا يتسابقون في ذلك.
وأضحى المسجد – إضافة إلى مهمته الأولى – مركز القيادة، فإذا أراد الرسول ﷺ أمراً، دعا مناديه ليرفع صوته بـ”الصلاة جامعة” وعندها يجتمع المسلمون وتطرح القضية محل النظر.
وتوسعت مهمة المسجد بعد ذلك، ليكون مكان التعليم، ومركز السلطة، ومكان التشاور عند الملمات، وفيه تعقد الرايات، ومنه تنطلق الدعوة.
____________________
1. وهي قوله ﷺ: “والله إنك لأحب أرض الله إلي. .”.
إنه مركز الحياة الاجتماعية، فهو التجسيد لمعنى الإسلام، الذي لا يفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. . . فالصلاة والجهاد والنظر في شؤون الناس. . كلها في مفهوم الإسلام عبادة.
مسكن النبي ﷺ:
لما فرغ صلى الله عليه وسلم من بناء المسجد، وكانت قبلته يومئذ إلى بيت المقدس، بني غرفتين في ملاصقته، في مؤخرته من قبل المشرق، وكان باب واحدة منها شارعاً إلى صحن المسجد، الذي تحول بعد ذلك مكانا الصلاة عندما تحولت القبلة باتجاه الكعبة.
وكانت واحدة منهما لزوجته سودة بنت زمعة، والثانية أعدت لعائشة وكان قد عقد عليها.
وأما بقية الحجرات فلم تبن إلا عند الحاجة إليها. فكان ﷺ إذا أحدث زواجاً بني غرقة. .
ونترك وصف هذه الحجرات للذين رأوها:
قال عبدالله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي ﷺ حين هدمها عمر بن عبدالعزيز، كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد مطرورة بالطين.
وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج رسول الله ﷺ من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبدالملك يقرأ، يأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم.
وقال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: (والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة ويقدم قادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله ﷺ. .).
وأما مقاييسها: فقد قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت أزواج النبي ﷺ في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي (1).
وروى البخاري في “الأدب” عن داود بن قيس قال: (رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن أن عرض البيت من باب الحجرة إلى البيت نحواً من ستة أو سبعة أذرع، ومن داخل عشرة أذرع، وأظن السمك ما بين الثمان والسبع) (2).
قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد لا حجر لها (3). .
وعلى هذا فالحجر نوعان: أربع منها عبارة عن غرفة واحدة وأمامها فسحة، والباقي غرف فقط.
ومقاييس النوع الأول: الفسحة من 3- 3.5 متراً، والغرفة 5 متراً وعرضها ما بين 3.5 – 4 متراً وأما الارتفاع فهو بمقدار ما يقف الإنسان ويمد يده أي ما يعادل 2.25 متراً
تلك صورة عن سكن النبي الكريم ﷺ كان لا بد من الوقوف عليها ونحن نتحدث عن الحياة الاجتماعية. .
____________________
1. طبقات ابن سعد 1/ 499 – 500.
2. شرح الزرقاني على المواهب 1/ 370.
3. طبقات ابن سعد 1/ 500.