القائمة الرئيسية

الوضع الاقتصادي في المرحلة الثانية

تعد الحالة الاقتصادية للمدينة في هذه المرحلة حالة ضيق بدأ ينفرج شيئاُ فشيئاً في آخرها.

فعلى الرغم مما بذله الأنصار، وهو شيء كبير، فقد كان حجم الهجرة أكبر من إمكاناتهم، وهذا ما دعى إلى إنشاء الصفة، كما أن الحروب والغزوات المتلاحقة والتي تحتاج إلى بذل مالي، كانت بدورها عاملاً من عوامل الضيق.

ولعل هذا يفسر لنا موقف الرسول ﷺ من وفد مزينة. كما ورد ذلك عند ابن سعد، قال: كان أول من وفد على رسول الله ﷺ من مضر أربعمائة من مزينة، وذلك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله ﷺ الهجرة في دارهم، وقال: “أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم”. فرجعوا إلى بلادهم (1).

فقد كان الوضع الاقتصادي في المدينة يومها لا يتحمل هذا العدد، ولذا ردهم إلى بلادهم. . واحتسب لهم أجرهم بنيتهم وعزمهم على الهجرة.

_______________________

 

1. طبقات ابن سعد 1/ 291.


 

ليسوا عالة:

رأينا في الفصل السابق رأي المنافقين في المهاجرين، وقول عبدالله بن أبي: لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فهل كان المهاجرون عالة على الأنصار إلى هذه الدرجة التي يتخيلها ابن أبي؟

تحدثنا فيما سبق أن كثيراً من المهاجرين جلبوا معهم أموالهم، وأن كثيراً منهم كان غنياً بعمله كما فعل عبدالرحمن بن عوف. . وقد ساهم هؤلاء الأغنياء من المهاجرين بدور فعال في تحمل جزء كبير من نفقات إخوانهم.

وقد رأينا في فصل سابق كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يوزع أهل الصفة حين يكثرون في أوقات الأزمات، كان أبو بكر وعمر وعثمان. . ومن كان على شاكلتهم يقومون بتحمل العبء الأكبر. .

بل إن القادر منهم كان يتحمل نفقات أقربائه الضعفاء، يدلنا على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد أجرى نفقة دائمة على مسطح بن أثاثة، وكان ابن خالته، فلما اشترك في حديث الإفك حلف الصديق أن لا ينفعه أبداً، فأنزل الله تعالى:

{وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا أُولِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوٓا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

(1).

عندها قال أبو بكر: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. .

على أن المهاجر كان حين يصل إلى المدينة يحاول أن يفتش عن عمل، وألا يكون عالة على غيره فطبيعة الإسلام تأبى ذلك، وهذا ما حصل لكثير من المهاجرين ونضرب مثالاً على ذلك:

_______________________

1. سورة النور: الآية 22.


جاء سلمة بن الأكوع إلى المدينة مهاجراً في السنة الرابعة للهجرة، فعمل عند طلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. . ” (1)..

بل لقد عمل المهاجرون في الزراعة، فها هو الزبير يعمل في الأرض التي أقطعه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير ويقول بالسقاية وغيرها، وتقوم زوجه أسماء بنت أبي بكر الصديق بنقل النوى على رأسها من هذه الأرض وهي على ثلثي فرسخ من بيتها (2). .

هذا على الرغم من انتقاص العرب يومئذ للزارعة وخاصة أهل مكة (3).

وقد جاء أبو موسى الأشعري يوماً فاستأذن على عمر ثلاثاً، ثم انصرف، فطلبه عمر بعد ذلك. . فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا. . فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق (4).

وهكذا كان العمل يشغلهم بعض الأحيان حتى تخفى على بعضهم الأحكام الجزئية التي يتعامل بها يومياً.

_______________________

 

1. رواه مسلم برقم 1807.

2. انظر البخاري رقم 2360 ومسلماً برقم 2357، وأما عمل أسماء وحملها النوى ففي البخاري برقم 5224 وعند مسلم برقم 2182.

3. قال أبو جهل حين قتل: فلو غير أكار قتلني. كما رواه مسلم برقم 1800. والاكار: المزارع.

4. رواه البخاري برقم 2062 ومسلم في كتاب الاستئذان برقم 36.


 

وكان كل منهم يعمل وفق طاقته. فهذا صحابي فقير لا يحد أجر الدكان التي يعمل فيها فيستأذن أسماء بنت أبي بكر في أن يبيع في ظل دارها فتأذن له (1)..

وقد سبق أن لخص لنا أبو هريرة الحركة الدائمة في الأسواق من قبل المهاجرين بقوله: (إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق) (2).

نسوق هذا كله لا لنرد على المنافقين، وإنما لنبين أن المهاجرين لم يلقوا بثقلهم كله على إخوانهم من الأنصار وقد أخذوا دورهم في ميادين العمل. .

انفراج الأزمة:

كان إجلاء بني النضير من اليهود إثر نقضهم العهد، في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلام، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل يهدم بيته ليأخذ بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به (3).

أما بقية أموالهم فكانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت خالصة له كما ورد ذلك نصاً من سورة الحشر التي نزلت في بني النضير، ومن ذلك قوله تعالى:

_______________________

 

1. رواه مسلم في كتاب السلام برقم 35.

2. رواه البخاري برقم 2350 ومسلم برقم 2492.

3. سيرة ابن هشام 2/ 191.


 

{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍۢ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا ۚ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} (1).

فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله ﷺ ولهذا تصرف فيه ح أي الفيء – كما يشاء، فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات. . كما قال ابن كثير (2).

وتوضح لنا الأحاديث كيف تصرف ﷺ بهذا الفيء: “فقد كان يحبس قوت أهله منه سنة، ثم يجعل ما بقي منه مجعل مال الله (3) عز وجل” (4).

وفي رواية: “كان ينفق على أهله نفقة سنة من مال بني النضير ويجعل ما بقي في الكراع   والسلاح” (5).

وقال ابن سعد: “كانت بنو النضير صفياً لرسول الله ﷺ خالصة له، حبساً لنوائبه، ولم يخمسها، ولم يسهم منها لأحد، وقد أعطى ناساً من أصحابه، ووسع في الناس منها. . ” (6).

وروى الحاكم في الإكليل عن أم العلاء قالت: (.. فلما غنم ﷺ بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال: “ادع لي قومك”، قال ثابت: الخزرج؟ فقال ﷺ: “الأنصار كلها” فدعا له الأوس والخزرج:

_______________________

 

1. سورة الحشر: الآيتان 6- 7.

2. تفسير ابن كثير عند الآيتين السابقتين.

3. أي في مصرف ما جعل عدة في سبيل الله من مصالح المسلمين.

4. رواه البخاري برقم 5357 ومسلم برقم 50 من كتاب الجهاد واللفظ له.

5. أخرجه إسحاق بن راهوية عن الزهري كما في فتح الباري 9/ 503.

6. طبقات ابن سعد 2/ 58.


فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: “إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم”.

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله، بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا.

وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم:

“اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار”

وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار شيئاً غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما (1).

قال البلاذري: وكان ﷺ يزرع تحت النخيل في أرضهم فيدخر من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح (2).

يتبين مما سبق أن فيء بني النضير اشتمل على الأرض والنخيل، والدور والمال، والسلاح. .

فأما الدور والمال فقد وزعت على المهاجرين ورجلين فقيرين من الأنصار.

وأما السلاح فقد احتفظ به للحاجة. .

وأما النخيل والأرض فقد احتفظ بها ﷺ لنفقة أهله، ثم يتصرف بالباقي حسب الحاجة. .

_______________________

 

1. شرح الزرقاني على المواهب 2/ 86.

2. المصدر السابق 2/ 86.


وأما القوت الذي كان يحبسه لعياله لسنة فهو الشعير والتمر، فكان ﷺ يحبس ما يكفيهم من الموسم، والموسم لا يكون في السنة إلا مرة واحدة. ومع ذلك ففي كثير من الأحيان كان يأخذ منه ويعطي لمن يرد عليه من ذوي الحاجات ولذلك لما مات ﷺ كانت درعه مرهونة على شعير اقترضه قوتاً لأهله (1).

وأما جمعه صلى الله عليه وسلم الأنصار وسؤالهم عن قسمة الأموال. . علماً بأنها فيء خاص له. . والأنصار يعلمون ذلك. . فذلك من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور. 

كانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج.

وكانت قصة غدر بني قريظة، وعقوبتهم في نهاية شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة. وكانت هناك غنائم كبيرة وزعت بعد عزل الخمس على المجاهدين من المهاجرين والأنصار.

وقد جعل رسول الله ﷺ على الخمس “محمية بن جزء الزبيدي، فكان ﷺ يعتق منه ويهب منه، ويخدم منه من أراد. .” (2).

ولا شك بأن أحوال كثير من المهاجرين قد تحسنت من الناحية الاقتصادية بعد توزيع غنائم قريظة، الأمر الذي استدعى مراجعة الحساب في شأن منائح الأنصار.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:

(كَان الرَّجُلَ كَانَ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ مِنْ أَرْضِهِ حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ) (3)

_______________________

 

1. فتح الباري 9/ 503.

2. طبقات ابن سعد 2/ 75 وشرح الزرقاني على المواهب 2/ 137.

3. رواه البخاري برقم 3128 ومسلم برقم 71 من كتاب الجهاد.


وقد بينت – فيما مضى – أن منائح الأنصار كانت على نوعين، منائح من الثمار، ومنائح أخرى من النخيل كانت توضع تحت تصرف الرسول ﷺ يضعها حيث شاء.

أما وقد تحسنت أحوال المهاجرين فقد أمر الرسول الكريم برد هذه المنائح إلى أصحابها، والذي يبدو أن هذا الرد كان لمعظمها وبقي بعض ذلك حتى كان فتح خيبر، حيث كانت الإعادة شاملة.

اقتصاد الأزمات:

للضرورة قوانينها الخاصة التي لا تطبق في الأحوال العادية، وهذا الاتجاه واضح كل الوضوح في المنهج الإسلامي. .

1- لهذا رأينا كيف خص ﷺ المهاجرين بفيء بني النضير.

2- ومن هذا المنطلق كان تصرف أبي عبيدة بن الجراح قائد غزوة سيف البحر التي كانت في آخر هذه الفترة التي نتحدث عنها في هذا الباب.

روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ:

(بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ فَخَرَجْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمِعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلٌ قَلِيلٌ حَتَّى فَنِيَ فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى  الْبَحْرِ. .) (1). 

إن جمع الأزواد كان بعامل الضرورة، وهكذا تعالج الأمور في أوقات العسر وهذا ما أرشد إليه الرسول ﷺ حين أثنى على الأشعريين.

_______________________

 

1. رواه البخاري برقم 4360 ومسلم برقم 1935.


روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

“إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا (1) فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ” (2).

3- وللأغنياء دورهم، ففي هذه الغزوة لما رأي قيس بن سعيد بن عبادة ما أصاب الجيش من الجوع، وحدث أن التقوا برجل من جهينة معه إبل، فاستدان على مال أبيه – كما في حديث البخاري – ثلاث جزر ثم ثلاث حزر، ثم إن أبا عبيدة نهاه لأنه إنما كان يستدين على مال أبيه (3).

4- وفي الأزمات لا مجال للرفاهية لأحد، حتى ولو كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جاء سبي إلى النبي ﷺ ويغلب على الظن أنه سبي بني قريظة. . فجاء علي وفاطمة إلى رسول الله ﷺ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ (4) حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ (5) وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ فَأَخْدِمْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَ بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ..” فَرَجَعَا. . (6)

_______________________

 

1. أرملوا: أي فني زادهم، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة.

2. رواه البخاري برقم 2486.

3. رواه البخاري برقم 4361.

4. أي استقيت.

5. أي ثخن جلدها.

6. رواه الإمام أحمد. انظر الفتح الرباني للبنا 21/ 44.


وعلي وفاطمة إنما يطلبان من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس. . ولكن حتى هذا النصيب إنما يضعه النبي ﷺ فيما هو أولى حتى ولو كان الطلب من أعز الناس عليه من فاطمة بنته رضي الله عنها.

تلك أمثلة عن السلوك الاقتصادي في أوقات الشدة، وغيرها كثير. .

المرافق العامة:

إن المرافق العامة، وهي ما يحتاجه الناس عامة، ولا ينبغي أن تكون في ملك فرد أو جماعة، أو تحت هيمنة فرد أو جماعة، وإنما ينبغي أن تكون متاحة للجميع وفي متناول الجميع، ونتحدث في هذه الفقرة عن مثالين؛

1- سوق المدينة:

قدم رسول الله ﷺ المدينة وفيها عدد من الأسواق منها: سوق زبالة وسوق بني قينقاع ويطلق عليها أيضاً اسم سوق الجسر، وسوق الصفصاف، وسوق مزاحم (1).

وكانت السوق الرئيسة هي سوق بني قينقاع، وأما الأسواق الأخرى فكانت صغيرة. .

وكما هو واضح من اسم “سوق بني قينقاع” أن اليهود هم الذين يسيطرون عليها ويتحكمون بها، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت هي السوق التي يرجع إليها الجميع. ولذلك لما سأل عبدالرحمن بن عوف عند بدء هجرته عن السوق، أرشد إلى سوق بني قينقاع.

وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الأمر على ذلك، ورأى اليهود يتحكمون في السوق وعندها كان لا بد من التفكير في إقامة سوق للمسلمين، لا يكون فيها سيطرة لأحد.

روى الطبراني من طريق الحسن: أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه، قال: بلى، فقام معه، حتى جاء موضع السوق فلما رآه أعجبه، وركض برجله وقال: “نعم  سوقكم هذا، فلا ينقص ولا يضربن عليكم خراج” (2).

_______________________

 

1. عن كتاب (المدينة في العصر الجاهلي) للدكتور محمد الخطراوي ص 126.

2. انظر (نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية) للكتاني 2/ 163.


وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَهَبَ إِلَى سُوقِ النَّبِيطِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: “لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ” ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى سُوقٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: “لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ” ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا السُّوقِ فَطَافَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: “هَذَا سُوقُكُمْ فَلَا يُنْتَقَصَنَّ وَلَا يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ” (1).

وعن عمرو بن شبة عن عطاء بن يسار قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل للمدينة سوقاً، أتى سوق بني قينقاع، ثم جاء سوق المدينة، فضربه برجله وقال: “هذا سوقكم فلا يضيق، ولا يؤخذ فيه خراج” (2).

تبين هذه النصوص أن الرسول ﷺ لم يكن راضياً عن تعامل المسلمين في سوق بني قينقاع فطلب من المسلمين أن يفتشوا عن مكان يصلح لهذه المهمة، ثم أخبر بوجود المكان المناسب، فخرج بنفسه فرآه، ثم أقره، وقال: هذا سوقكم. .

وهكذا انتقل المسلمون إلى المكان الذي أشار إليه ﷺ.

ويغلب على الظن أن هذه القضية – قضية نقل السوق – كانت عاملاً من عوامل حقد بني قينقاع على المسلمين، وربما كانت السبب في أنهم كانوا أول من نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيه من الحرص على الاستقلال الاقتصادي للمسلمين وفي وقت مبكر، فقد كانت الحادثة في تقديري مع بداية هذه المرحلة الثانية أي بعد بدر مباشرة.

2- بئر رومة:

قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، والماء الصالح للشرب قليل، “فليس هناك ما يستعذب إلا بئر رومة” (3).

_______________________

 

1. سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب (40) رقم الحديث 2233.

2. انظر كتاب (آثار المدينة) لمؤلفه عبدالقدوس الأنصاري ص 163، المكتبة السلفية: نقلاً عن كتاب: وفا الوفا.

3. رواه النسائي والترمذي. انظر جامع الأصول 8/ 638 رقم الحديث 6474.


وكانت هذه البئر ليهودي يبيع ماءها بيعاً “فلم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن” (1).

ولم ير الرسول الكريم ﷺ استقامة هذا الوضع، فماء الشرب حاجة يومية لا يستغني عنها إنسان، وليس من المعقول أن يتحكم بهذه الحاجة إنسا من الناس بغض النظر عن دينه، ولذا لفت الأنظار إلى هذا المرفق الضروري فقال ﷺ: “مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ” (2).

إنه صلى الله عليه وسلم يريد ممن يشتريها أن يجعلها عامة للمسلمين وتكون دلوه فيها كدلاء المسلمين غير متميز عليهم، أي تكون دلوه فيها باعتبار مسلماً لا باعتباره أنه الذي اشتراها. وبهذا تكون ملكاً عاماً لا سيطرة لأحد عليه.

ليست القضية إذن أن تنتقل البئر من ملك يهودي إلى ملك مسلم، وإنما أن تنتقل من الملك الخاص إلى ملك عام، ولم يكن لدى النبي ﷺ يومئذ من المال ما ينفذ به هذا الأمر فكان لا بد من حض المسلمين على القيام به ابتغاء رضوان الله تعالى.

ولا شك أن صاحب البئر سيغالي بها، فهي بئر وحيدة، وتدر عليه المال الكثير. . ولكن الله تعالى هيأ لهذا العمل عثمان بن عفان رضي الله عنه. 

جاء في كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر في ترجمة عثمان رضي الله عنه:

_______________________

 

1. رواه الترمذي. انظر جامع الأصول 8/ 641 رقم الحديث 6475.

2. رواه البخاري معلقاً عند الباب الأول من كتاب المساقاة. قال في فتح الباري: وقد وصله الترمذي والنسائي وابن خزيمة من طريق ثمامة بن حزن 5/ 30.


“واشترى عثمان بئر رومة، وكانت ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فقال ﷺ: “مَنْ يَشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ، يضرب بدلوه  في دلائهم، وله بها مشرب في الجنة” فأتى عثمان اليهودي فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها بإثني عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين. فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيب قرنين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، قال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين. فلما رأى ذلك اليهودي قال: أفسدت علي ركيتي (1)، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف”.

الإحصاء:

الإحصاء ضرورة من الضرورات التي لا بد أن تكون متوفرة تحت يد كل قائد أو مسؤول كل فيما يخصه. .

فهو ضرورة لتقدير أي موقف عسكري، كما أنه ضرورة لمعرفة الوضع الاقتصادي. . والسكاني. .

وبين أيدينا أكثر من حديث يتناول طلب النبي ﷺ إحصاء عدد المسلمين.

عن حذيفة بن اليمان قال: قال: النبي ﷺ: “اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ النَّاسِ فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ” 

وفي رواية: فوجدناهم خمسمائة”.

وفي رواية: “ما بين ستمائة وسبعمائة” (2).

_______________________

1. هي البئر.

2. هذه الروايات كلها في البخاري برقم 3060 والرواية الأخيرة في مسلم برقم 149.


ولا تناقص بين هذه الروايات، لأن العمليات الإحصائية تجري من وقت لآخر بسبب المتغيرات.

والذي يبدو أن طلب الإحصاء تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم في أزمان مختلفة فاختلفت الأرقام بسبب ذلك.

ويظهر أن هذه الإحصاءات كلها كانت في هذه الفترة التي نتحدث عنها، فأكثر الروايات من حيث العدد فيما يتعلق بصلح الحديبية تقول إنهم كانوا ألفاً وخمسمائة.

وهكذا كانت الأمور تسير بقيادته ﷺ تراعى فيها كل المعطيات، وبناء عليها يكون تحديد مستوى الحركة واتجاهها.

مواضيع ذات صلة