في هذا الفصل نتحدث عن مرفق اقتصادي مهم، كان له أثره طوال المرحلة المدنية، هو “الصفة” (1)، وعلى الرغم من امتداد فعاليته طوال الحياة المدنية فإننا سنتحدث عنه جملة في هذا الباب الأول، حتى لانجزئه إلى أقسام، وتفادياً لصعوبة التقسيم، إذ ليس بين أيدينا ما هو دوره في كل مرحلة من المراحل الثلاث التي تحدثنا عنها عند تقسيمنا للبحث.
التعريف بالصفة:
قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأوي إليه المساكين، وإليها تنسب أهل الصفة (2).
وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخر مسجد النبي ﷺ في شمالي المسجد بالمدينة المنورة (3).
وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل (4).
_______________________
1. أصلها من صفة البيت، وهي شيء كالظلة قدامه.
2. نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية لعبدالحي الكتاني 1/ 474.
3. الفتاوى 11/ 38.
4. فتح الباري 6/ 595 و 1/ 353.
وهكذا تجمع الأقوال كلها على أمر واحد، انها مكان في مؤخر مسجد رسول الله ﷺ، ولكن ما هو أصل الفكرة وكيف حدثت؟.
والذي يظهر من دراسة السيرة أنه بعد قدوم المهاجرين وبناء المسجد، كان بعض المسلمين من المهاجرين يلجأون إلى النوم في المسجد، وربما كان ذلك لضيق المكان الذي أنزلوا فيه.
ففي حديث نافع عند البخاري، أن عبدالله بن عمر أخبره أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وعبدالله بن عمر هاجر مع أبيه وأغلب الظن أن المكان الذي نزل فيه عمر كان مكاناً ضيقاً فوجد في المسجد فسحة يقضي ليله فيه، ولعل غيره كان يفعل ذلك. فالمسجد بعد صلاة العشاء وحتى صلاة الصبح يكون خالياً، ونوم إنسان فيه لا يضايق أحداً، ولا شك أن رسول الله ﷺ كان على علم بذلك. .
واستمر الأمر كذلك حتى مضى عام ونصف على الهجرة عندما نزلت الآيات بتحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت تجاه بيت المقدس. أي أن القبلة تحولت إلى الجهة المقابلة تماماً. وهنا حدث أن بني أو سقف القسم الخلفي من المسجد لتكون الصلاة تجاه الكعبة، وترك القسم السابق على ما كان عليه، وعند ذلك الفرصة مواتية لمن أراد النوم في المسجد القديم الذي أصبح القسم الخلفي من المسجد النبوي الشريف ومن هنا نشأت فكرة الاستفادة من هذا المكان الذي أطلق عليه اسم الصفة (2).
_______________________
1. هذا لفظ البخاري برقم 440، وهو عند مسلم برقم 2479.
2. انظر تفصيل بناء المسجد النبوي في كتاب “الفن الإسلامي التزام وإبداع” للمؤلف.
وقد قرر هذا الإمام الحافظ الذهبي فقال: إن القبلة قبل أن تتحول كانت في شمال المسجد، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة (1).
وعلى هذا فالصفة لم تأخذ وضعها كدار ضيافة إلا في نهاية هذه الفترة التي نتحدث عنها في هذا الباب.
أهل الصفة:
قال أبو هريرة: (أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحد) (2).
إن المهاجرين الأول الذين هاجروا قبل النبي ﷺ أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة، ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم. .
قال ابن تيمية: ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة في المسجد (3).
والذي يبدو أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول ﷺ، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل.
جاء في المسند عن عبادة من الصامت قال:
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُشْغَلُ فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ فَدَفَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا وَكَانَ مَعِي فِي الْبَيْتِ أُعَشِّيهِ عَشَاءَ أَهْلِ الْبَيْتِ فَكُنْتُ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ) .
(4)
_______________________
1. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/ 370.
2. رواه البخاري برقم 6452.
3. الفتاوى 11/ 40 – 41.
4. المسند 5/ 324.
وهكذا استضاف عبادة هذا الرجل في مبيته وطعامه.
وإذا كان القادم إلى المدينة له من يعرفه فيها نزل عليه، وإلا نزل مع أصحاب الصفة.
جاء في حديث طلحة بن عمرو – عند أحمد وابن حبان والحاكم -: (كان الرجل إذا قدم على النبي ﷺ، وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة) (1).
وفي رواية المسند: قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة فنزلت في الصفة. .(2).
وقد كان عامة من نزل الصفة من العزاب الذين لا أهل لهم (3).
كما كان عامتهم من المهاجرين، إذ لا حاجة للأنصار للنزول بها فالمدينة بلدهم وفيها دورهم وعشائرهم. وهذا لا يمنع من نزولهم، ولكني لم أجد نصاً يدل على أن أنصارياً نزل بها.
أما ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أنس في قصة إرسال النبي سبعين رجلاً من الأنصار فيهم خال أنس “حرام” فليس هناك نص أنهم من أهل الصفة، وإنما كانوا يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء (4). فهم يساعدون أهل الصفة بعملهم هذا ليس أكثر.
_______________________
1. فتح الباري 11/ 286.
2. المسند 3/ 487.
3. ويبدو أن العزاب – قبل الصفة – كانوا ينزلون على سعد بن خيثمة، إذ كان عزباً لا أهل له، فكان العزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ينزلون في بيته ولهذا سمي “بيت العزاب” كما ذكر ذلك الطبري 2/ 382 في تاريخه.
4. انظر نص الحديث في البخاري برقم 4090 وعند مسلم في كتاب الإمارة رقم 147.
نفقة أهل الصفة:
تبين لنا ان أهل الصفة بيسوا أناساً ثابتين لا يتغيرون، وأن المكث في الصفة إنما هو وضع اضطراري يلجأ إليه من ربه حاجة.
وبناء على ذلك، لم يكن هناك مورد ثابت ينفق عليهم منه، وإنما كان ﷺ يؤمن ذلك بوسائل مختلفة. .
وهذا أبو هريرة يبين لنا بعض ذلك فيقول:
(وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا) (1).
وعن بشير بن الخصاصية قال: (أتيت رسول اللهﷺ فدعاني إلى الإسلام ثم قال لي: “ما أسمك؟” قلت: نذير، قال: “بل أنت بشير”، فأنزلني بالصفة فكان إذا أتته هدية أشركنا فيها، وإذا أتته صدقة صرفها إلينا) (2).
وقد يلجأ ﷺ بعض الأحيان إلى توزيعهم على أصحابه، ففي حديث عبدالرحمن بن أَبِي بَكْرٍ (أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَشَرَةٍ. . ) (3).
وعن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال: (عَنْ يَعِيشَ بْنِ طِخْفَةَ بْنِ قَيْسٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْقَلِبُ بِالرَّجُلِ وَالرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ حَتَّى بَقِيتُ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ انْطَلِقُوا فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ.. ) (4).
_______________________
1. رواه البخاري برقم 6452.
2. أخرجه ابن عساكر، كما في حياة الصحابة للكاندهولي 1/ 80.
3. رواه البخاري برقم 3581 ومسلم برقم 2057.
4. المسند 3/ 429.
وكان أصحاب حقول النخيل يساهمون في ذلك، فكان الرجل منهم يأتي بالقنو القنوين. . يضع ذلك في المسجد عند أهل الصفة. . ولما كان بعضهم يأتي بالقنو فيه الشيص والحشف. . أنزل الله تعالى:
{وَلَا تَيَمَّمُوا ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}
[البقرة: 267]
فكانوا بعد ذلك لا يأتي الواحد منهم إلا بصالح ما عنده (1).
وكان ﷺ يطلب من الناس أن يوجهوا صدقاتهم إليهم. فقد جاء في المسند أن فاطمة لما ولدت حسناً، طلب منها ﷺ أن تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره من فضة على أهل الصفة. . (2).
وقد كان ﷺ يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة رضي الله عنه تسأله خادماً، فكان جوابه – كما في المسند عند الإمام أحمد -:
“وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُم وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَ بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ” .
(3)
وربما كان حال أصحاب الصفة في بعض الأوقات أحسن منها في أوقات أخرى، فذلك تابع للجو الاقتصادي العام الذي يكون في المدينة، ولذا فقد يسوء حالهم في حالات الشدة، وهذا ما وصفته بعض الأحاديث. ومنها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
(رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ)
(4)
_______________________
1. رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن.
2. المسند 6/ 390 – 391.
3. عن فتح الباري 6/ 216، وأصل الحديث في البخاري برقم 3113.
4. رواه البخاري برقم 442.
وإذا علمنا أن أبا هريرة إنما كان وصوله إلى المدين بعد العام السابع من الهجرة، تبين لنا أن هذا الضيق قد استمر حتى وقت متأخر.
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ:
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْخَصَاصَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ حَتَّى يَقُولَ الْأَعْرَابُ هَؤُلَاءِ مَجَانِينُ. .)
(1)
من أسباب ضيق العيش:
مر فيما سبق ذكر بعض هذه الأسباب. . ونترك الحديث لأبي هريرة يحدثنا عن جوانب أخرى من هذا الموضوع:
أخرج محمد بن سعد عن مخرمة بن سليمان الوالبي، أخبرني الأعرج عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ كان يجوع، قلت لأبي هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قال: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاماً أبداً إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة يتتبعون من المسجد، فلما فتح الله خيبر اتسع الناس بعض الاتساع، وفي الأمر بعد ضيق، والمعاش شديد، هي بلاد ظلف (2) لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذلك أقاموا.
قال مخرمة: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله ﷺ منذ نزل المدينة في الهجرة إلى يوم توفي، وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك، فكان أصحاب رسول الله ﷺ كثيراً يتواسون، لكن الحقوق تكثر، والقدام يكثرون والبلاد ضيقة ليس فيها معاش، إنما تخرج ثمرتهم من ماء ثمر، يحمله الرجال على أكتافهم أو الإبل. . وربما أصاب نخلهم القشام (3) فيذهب ثمرتهم تلك السنة (4).
_______________________
1. رواه الترمذي في الزهد باب 39 رقم الحديث 2473، وفي المسند 6/ 18.
2. كل ما اشتد من الأمر فهو ظلف.
3. القشام: أن ينتفض ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً.
4. طبقات ابن سعد 1/ 409.
وهكذا يضع النص يدنا على الأسباب المهمة، فليس ذلك الضيق ناتجاً عن تقصير القادرين في العطاء، فالصحابة يقومون بواجب المواساة. . ولكن:
– تكاثر الحقوق والمسؤوليات.
– كثرة القادمين.
– ضيق المعاش في المدينة واعتماده على الزراعة التي قد لا تسلم في كل موسم. .
إنها جوانب مهمة سببت هذا الضيق.
عمل أهل الصفة:
لا نستطيع أن نقول: ما هو عملهم؟ بمعنى المهنة أو الصنعة أو العمل الذي يكون سبباً لمورد رزقهم. لأن الصفة كانت مكان إقامة مؤقتة، فإذا وجد الواحد منهم عملاً او مأوى خارجها. .غادره ولم يستمر فيها.
قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال، فربما اجتمعوا فكثروا، وربما تفرقوا إما لغزو، أو سفر، أو استغناء فقلوا (1).
وقال ابن تيمية: لم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل، أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له. . فهي مأوى فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم أو سافر أو خرج غازياً خرج منها (2).
وإذن فمن وجد غنى بعمل أو زواج أو غير ذلك خرج منها. .
ولذا يحسن أن نطرح السؤال بشكل آخر، فنقول: كيف كانوا يقضون وقتهم؟ وفي الإجابة عليه نقول:
_______________________
1. فتح الباري 11/ 287 – 288.
2. الفتاوى 11/ 41 و 81.
إن غالب الذين يستقرون في الصفة مؤقتاً، هم من المهاجرين الجدد، وبعضهم ربما كان جديداً على الإسلام، فكان بحاجة إلى تعلم القرآن وأحكام الشرع، ولذا كان جل وقتهم بين تدارس للقرآن، أو تعلم له يقوم بذلك الرسول ﷺ أو من يوكل إليه ذلك، كما كان ﷺ يجلس إليهم ويذكرهم ويعظهم ويرفع من همتهم، كل ذلك قد وردت به النصوص:
عن عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْسًا أَخْبَرَهُ قَالَ:
(إِنَّا لَقُعُودٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْنَا وَيُذَكِّرُنَا. .)
(1).
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني يقَول:
(خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يوماً، وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: “أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ (2)، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ (3) فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (4) فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ”) (5).
وفي حديث فضالة بْنَ عُبَيْدٍ السابق: . . فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّلَاةَ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ – أي أهل الصفَة – فقال:
“لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَحْبَبْتُمْ لَوْ أَنَّكُمْ تَزْدَادُونَ حَاجَةً وَفَاقَةً” (6).
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:
(عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَةَ وَالْقُرْآنَ) (7).
وهكذا كانوا يقضون وقتهم. . فإذا حضرت سرية أو غزوة خرجوا فيها أو خرج القادر منهم إلى الجهاد. .
_______________________
1. المسند 4/ 8.
2. اسم موضع قرب المدينة.
3. اسم واد بالمدينة.
4. الكوماء من الإبل: العظيمة السنام،
5. رواه أحمد في المسند 4/ 154 ومسلم برقم 803.
6. المسند 6/ 18 والترمذي في الزهد باب 39 برقم 2473 وقال: حديث حسن صحيح.
7. المسند 5/ 315.
قال الإمام الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ. .}
(1)
نزلت في فقراء المهاجرين. وهم أصحاب الصفة. . وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن، ويخرجون في كل غزوة.
ولما كان مكوث أهل الصفة فيها مكوثاً اضطرارياً، وكان جل الإنفاق عليهم من باب الصدقات، فإنه لا يسمح لأحدهم أن يدخر مالاً ولو قليلاً، بل عليه أن ينفقه على نفسه وزملائه، أو أن يغادر الصفة إذا كان هذا المال كافياً للاستغناء عن الإقامة في الصفة. . وهذا ما يوضح لنا النصين التاليين:
عن علي رضي الله عنه قال:
(مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَيَّتَانِ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)
(2).
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ:
(أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ دِينَارًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ “لَهُ كَيَّةٌ” ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَتَرَكَ دِينَارَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَيَّتَانِ) .
(3)
إيضاح وبيان:
إن الإنسان ليعجب وهو يقرأ بعض الأحاديث التي تصف فقر أهل الصفة، ويتساءل كيف استطاعوا الصبر على ذلك؟
وقبل الإجابة أحب أن أنوه ببعض الأمور التي قد تغيب عن ذهن القارئ الكريم:
_______________________
1. سورة البقرة: الآية 273.
2. المسند 1/ 101.
3. المسند 5/ 252.
1- صفة ليست مكان إقامة دائمة، فالذين وجدوا فيها في يوم، ربما لم يكونوا فيها في اليوم الذي قبله، أو ربما لن يستمروا فيها إلى اليوم الذي يليه. وهذا يعني أن تلك الشدة كانت مؤقتة كمحطة في طريق المسافر ريثما يستقر، وهذه أمور يتحملها الناس عادة.
2- هذه الحال من الشدة ليست جديدة على حياة الفرد العربي، الذي تعود على قسوة الجوع في كثير من أوقاته، بل كان في بعض الأحيان يبلغ من شدته أن مسمى الجوع لا ينطبق عليه، وهذا ما قاله المغيرة بن شعبة ليزدجرد في مقابلته له قبل معركة القادسية، قال: فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان. . ونرى ذلك طعامنا. . (1).
وإذن فالعرب قد تعودوا قسوة العيش وشدته، فليس هذا الوضع جديداً عليهم.
3- إن كثيراً من الأحاديث المتعلقة بالصفة هي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، الذي كان أكثر الناس – فيما يبدو – مكوثاً في الصفة، وهذه الأحاديث ليست كلها لأناس بعينهم، لأنها تتحدث عن الصفة في أوقات مختلفة، ومعنى هذا أن ما أشار إليه حديث ما، من شدة العيش في الصفة، لا ينطبق على جميع من انتسب إليها، بل يتعلق بالفئة التي كانت وقتئذ. . وإذا كانت هذه الشدة المذكورة في الأحاديث موزعة على أناس عاشوا في أوقات مختلفة فذلك أمر محتمل.
يضاف إلى ذلك أن أبا هريرة قد طال مكثه في الصفة – فيما نعتقد – رغبة منه لا اضطراراً، فقد جاء إلى المدينة في وقت متأخر، في العام السابع بعد فتح خيبر. . وأحب أن يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم فيعوض ما فاته من الوقت، حرصاً منه على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه ﷺ ومعرفة أحواله وتبركاً بخدمته صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي ﷺ، فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك.
ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك:
_______________________
1. البداية والنهاية لابن كثير 7/ 42.
قال أبو هريرة:
(إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ)
وهكذا يوضح رضي الله عنه أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية (2).
ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، في أول يوم قدم فيه على النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أسهم له ﷺ من الغنيمة. . كما أنه قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح.. (3) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم واستماع أحاديثه. . وكان يستطيع الاستغناء عن الصفة لو أراد. . نقول بعد هذا:
إن الصحابة الذين مروا بالصفة في يوم من أيامهم فمكثوا فيها بعض الوقت كانوا يحتسبون ذلك عند الله تعالى، فهذا الجوع كان في سبيل الله تعالى، ومن أجل العقيدة التي يحملونها. ولعل الجوع هو أقل ما يقدم. .
_______________________
1. رواه البخاري برقم 2047 واللفظ له، ومسلم برقم 2492.
2. جاء في الحديث الذي رواه مسلم برقم 2491 ما خلاصته: أن أبا هريرة كان يدعو أمه إلى الإسلام وهي مشركة، فدعاها يوماً فأسمعته في النبي ﷺ ما يكره، فأتى النبي ﷺ وهو يبكي وطلب منه الدعاء لها، وبعد الدعاء رجع إليها فوجدها قد أسلمت..
وهذا يعني أنها كانت مصاحبة له في المدينة. . وقد نزلت هي وإياه مع الدوسيين الذين كانوا بمعية الطفيل بن عمرو الدوسي في حرة الدجاج، كما في طبقات ابن سعد 1/ 353.
ثم إن قدوتهم – الرسول ﷺ – لم يكن أحسن حالاً منهم، وهم يعلمون حقيقة عيشه، فهم على مقربة منه، لا يفصلهم عن بابه إلا بضع خطوات، وإذا كان ﷺ يجوع وهو رسول الله، فما بالهم لا يصبرون أنفسهم ولهم فيه الأسوة كل الأسوة؟!.
نهاية دور الصفة:
ليس هناك نص – فيما أعلم – يحدد التاريخ الذي انتهى فيه دور الصفة كدار ضيافة مؤقتة، اللهم سوى ما جاء عند ابن سعد من قوله: “حتى جاء الله بالغنى” (1) وهذا القول وما شابهه، لا يحدد وقتاً معيناً.
وكان يغلب على ظني أن دورها انتهى بفتح مكة، ذلك أن المصدر الرئيسي لروادها هم المهاجرون، وقد أنهى فتح مكة الهجرة فقال ﷺ “لا هجرة بعد الفتح”، لكني وجدت بعد ذلك نصاً يدل على استمرارها بعد الفتح. .
فقد أخرج ابن عساكر (1/ 105) عن ابن عباس قال: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الطائف بستة أشهر، ثم أمره الله بغزوة تبوك، وهي التي ذكر الله في ساعة العسرة، وذلك في حر شديد، وقد كثر النفاق، وكثر أصحاب الصفة. .) (2).
ولعل كثرة أصحاب الصفة في تبوك كان نتيجة لتجمع القبائل حول المدينة للإنطلاق إلى تبوك، وهذا هو المرجح، ولم يكن كما سبق ناتجاً عن الهجرة.
ومهما يكن من أمر فقد استمرت الصفنة حتى بعد الفتح إذن، حتى جاء الله بالغنى كما قال ابن سعد.
_______________________
1. طبقات ابن سعد 1/ 255.
2. حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 417
وربما كان الغنى هو المال الذي ورد إلى المدينة من جزية البحرين، فقد كان مالاً عظيماً. . (1) وقد وزعه صلى الله عليه وسلم بكامله، ولم نجد لأهل الصفة ذكر في توزيعه، مما يدل على أن الصفة كانت خالية يومئذ وقد كان وصول هذا المال قبل حجة الوداع بقليل.
وأما عدد أصحاب الصفة، فليس بين أيدينا إحصاء دقيق لذلك، وإنما هي أقوال مبناها على التخمين، فقال بعضهم: هم أربعمائة، وقال أبو عبدالرحمن السلمي: هم نحو من ستمائة أو سبعمائة. .
وكانوا – كما قال ابن تيمية – يقلون تارة ويكثرون أخرى، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين (2).
الخطأ الفادح:
استدل بعضهم بحال أهل الصفة على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحلة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل.
وننقل بعض هذه الأقوال:
_______________________
1. جاء في تفسير ابن كثير عند الآية 70 من سورة الأنفال
أخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: :أتى رسول الله ﷺ بمال من البحرين فقال: أنثروه في مسجدي، قال: وكان أكثر مال أتى به رسول الله ﷺ، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء جلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، فقال له رسول الله ﷺ: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: مر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا، قال: فارفعه أنت علي، قال: لا، فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق. . فما قام رسول الله ﷺ وثم منها درهم. وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم. [وانظر زاد المعاد 3/ 692 في هذه الجزية].
أقول: فلو كان هناك أحد من أهل الصفة لم يسمح للعباس أن يأخذ ما أخذ.
_______________________
1. الفتاوى 11/ 41.
قال أبو عثمان سعيد بن أبي جعفر: إن الفقراء المتجردين من الصوفية، هم الذين ورثوا أهل الصفة في الجلوس في المساجد والرباط والتجرد وقلة التسبب، والناس ينظرون على الفقراء هذه الصفة، وهي السنة، لأن السنة في عرف الشرع ما أقره عليه السلام، أو عمله أو علمه، وكان عليه السلام يحسن إليهم ويؤنسهم، ولم يأمرهم بتكسب.
وقال المقريزي في الخطط: ولاتخاذ الربط والزوايا أصل من السنة، وهو أن النبي ﷺ اتخذ لفقراء الصحابة الذين لا يأوون إلى أهل ولا مال مكاناً في مسجده كانوا يقيمون به عرفوا بأهل الصفة.
وقال ابن ليون التجيبي: وفي الصحيح أن أهل الصفة لم يتسببوا، ولا اشتغلوا بغير الذكر والفكر والقعود في المسجد. وكان القراء يخدمونهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطعمونهم. وقال لهم: أبشروا يا أهل الصفة. . فترك التسبب طريقة أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح أنه أمرهم بالتسبب، وإنما أمرهم بالتوكل. . (1).
أقول: وهذه الأقوال وما شابهها، كلها يجانبها الصواب، لأن قائليها لم يدرسوا وضع أهل الصفة دراسة مستفيضة كما فعلنا. . وإنما استوقفهم ظاهر نص من النصوص فوقفوا عنده ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث.
وليس من هدفنا في هذه الدراسة مناقشة هذه الأقوال والرد عليها، وإنما نلفت النظر إلى بعض الملاحظات:
* إذا كانت الأمر كما يقول هؤلاء، فلماذا لم يستمر أصحاب الصفة فيها حتى نهاية حياتهم. ولماذا غادروها بعد ذلك لينغمسوا في شؤون الحياة الدنيا؟.
_______________________
1. عن نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية لعبدالحي الكتاني 1/ 473 – 478.
* ثم إن كل النصوص تؤكد أن نزلاء الصفة كانوا من العزاب ومن المهاجرين.. فهل معنى ذلك أن المتزوجين وكذلك الأنصار لم يكونوا متوكلين على الله؟ ولماذا المهاجرون فقط؟.
* ثم إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصفة من غيره، لماذا لم يستمر فيها، وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر ولم يكن مخشوشناً في حياته – كما قال ابن سيرين – وكان يلبس ثوبين ممشقين. . وأخذ بأسباب الرفاهية (1).
* والخلاصة: إذا كانت حال أهل الصفة هي ذروة حال المؤمن، فلماذا لم تستمر الصفة حتى نهاية حياته صلى الله عليه وسلم، بل انتهت قبل ذلك، ولو كانت عملاُ إيمانياً لماذا لم تستمر في عهد الخلفاء الراشدين؟.
إنها جميعاً أسئلة لا تجد جواباً لدى الذين اتخذوا الصفة دليلاً على مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة.
ثم إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال، كما وردت النصوص الكثيرة بذلك (2)، فأين هؤلاء من ذلك؟.
الخلاصة:
إن الصفة كما رأينا هي تدبير اقتصادي مؤقت، دعت إليه الظروف الصعبة التي عاشها المسلمون في المدينة، ذلك البلد الذي وصفنا اقتصاده فيما سبق.
وقد انتهى دورها حينما وسع الله على المسلمين. .
وهي تدبير نبوي كريم، استطاع أن يحل به مشكلة اقتصادية ليست يسيرة. .
_______________________
1. انظر ترجمته في الإصابة. وكذا في طبقات ابن سعد 4/ 325 وما بعدها.
2. ومن ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس – وقد مر بعضه -: “وإذا حضر غزو عمد المسلمون إليهم – إلى أهل الصفة – فاحتمل الرجل الرجل منهم أو ما شاء. .” [انظر حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 417].
ومن ذلك قصة واثلة بن الأسقع يوم تبوك – وهو من أهل الصفة – كيف ذهب ينادي: من يحملني وله سهمي. . [انظر من معين السيرة للمؤلف ص 487].