لا شك بأن صلح الحديبية، الذي وصلت أنباؤه إلى كل مكان في الجزيرة العربية، كان له الأثر الكبير في أمن الناس بشكل عام، مما سهل حركة الانتقال والسفر.
ولا شك بأن المدينة المنورة بعد ذلك باتت مركز نشاط فعال في استقبال الناس، كنشاطها في انطلاق السرايا، كما رأينا في الفصل السابق.
والذي يهمنا الحديث عنه في هذا الفصل هو الذي قدموا إلى المدينة بغية الإقامة فيها والالتحاق بركب المهاجرين.
وليس باستطاعتنا تسجيل كل أولئك الذين قدموا في هذه المدة ولكنا نشير إلى بعض ذلك.
1- كان نعيم بن عبدالله “النحام” ممن أسلم قديماً، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة أراد الهجرة، فتعلق به قومه فقالوا: دن بأي دين شئت، وأقم عندما، وذلك أنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم، فأقام بمكة حتى كانت سنة ست، فقدم مهاجراً إلى المدينة ومعه أربعون من أهله (1).
2- أرسل رسول الله ﷺ بعد عودته من الحديبية عمرة بن أمية إلى النجاشي يطلب منه أن يبعث إليه جعفر بن أبي طالب ومن معه من مهاجرة الحبشة، وقد لبى النجاشي هذه الطلب. .
وقد نتساءل: لماذا تأخر رجوع هؤلاء المهاجرين إلى هذا الوقت علماً بأن المسلمين قد قامت لهم دولة.
_______________________
1. انظر الإصابة، وطبقات ابن سعد 4/ 138.
والذي يبدو لي أن حالة الأمن لم تساعد على عودتهم قبل هذا الوقت، فالحرب قائمة بين الرسول ﷺ وبين قريش من جانب، وبينه وبين اليهود من جانب آخر، ونضيف إلى ذلك تسخير بعض القبائل الأخرى بعمليات غادرة كالتي حدثت يوم الرجيع ويوم بئر معونة. .
ولهذه المعاني، لما أرسلت قريش تريد فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان اللذين أسرا في سرية عبدالله بن جحش. . قال ﷺ: “لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا – يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان – فإنا نخشاكم عليهما، إن تقتلوهما نقتل صاحبيكم” فقد سعد وعتبة ففداهما، وكانا قد أضلا بعيراً فتأخرا لأجله (1).
يتضح من هذا انعدام الأمن، فما كان ﷺ ليعرض حياة أصحابه الذين هم في الحبشة إلى الخطر، وآثر بقاءهم هناك حتى أتيحت الفرصة لذلك، والله أعلم.
3- وقدم مع جعفر وأصحابه: الأشعريون، أبو موسى وأصحابه، ولنترك الحديث لأبي موسى الأشعري يقص علينا خبر ذلك، قال:
(بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ إِمَّا قَالَ فِي بِضْعٍ وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَنَا هَاهُنَا وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ ﷺ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا أَوْ قَالَ فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ) (2).
_______________________
1. سيرة ابن هشام 1/ 604.
2. رواه البخاري برقم 3136 ومسلم برقم 2502.
وقد أنزل أبو موسى وجماعته في بقيع بطحان (1).
وهكذا يصل إلى المدينة مع افتتاح خيبر جماعتان، الأولى جعفر وأصحابه (2) والثانية أبو موسى وأصحابه والذين يزيد عددهم على الخمسين.
4- وفي والوقت نفسه تقريباً يصل وفد ثالث.
قال ابن سعد: لما أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي. . دعا قومه فأسلموا وقدم معه منهم المدينة سبعون أو ثمانون أهل بيت، وفيهم أبو هريرة وعبدالله بن أزيهر الدوسي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فساروا إليه فلقوه هناك. . ثم قدموا معه المدينة فقال الطفيل: يا رسول الله لا تفرق بيني وبين قومي، فأنزلهم حرة الدجاج (3).
من هذا نتبين أنه ما إن وصل خبر الصلح حتى شد الناس من المسلمين – أو ممن يريدون الإسلام – رحالهم إلى المدينة، وكان على المدينة أن تؤمن السكن والحاجات الأخرى لهؤلاء القادمين.
واعتقد أن الضغط على المدينة في هذه الفترة يذكرنا ببدء الهجرة حينما بدأ المسلمون يهاجرون من مكة إلى المدينة.
5- ووصل بعد ذلك سبعون رجلاً جماعة أبي بصير، وهم الذين أرسلت قريش ترجو رسول الله ﷺ قبولهم، كما سنتحدث عنهم في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
6- ووصل بعد ذلك إلى المدينة عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، ليعلنوا إسلامهم أمام رسول الله ﷺ وليأخذوا مكانهم في حمل رسالة الإسلام. . .
_______________________
1. رواه البخاري برقم 567 ومسلم برقم 641.
2. ذكر ابن هشام 2/ 359 – 370 عدد وأسماء الذين قدموا مع جعفر من مهاجري الحبشة، وكان عدد الرجال 16، ومع بعضهم نساؤهم وأولادهم، يضاف إلى ذلك نساء وأولاد الصحابة الذين ماتوا هناك. . ومن النساء أم حبيبة وابنتها.
3. طبقات ابن سعد 1/ 353، وانظر البداية والنهاية 3/ 100.
7- ولا شك بأن هناك كثيرين وصلوا إلى المدينة واستقروا فيها مهاجرين، يدلنا على ذلك كثافة أهل الصفة في هذه المدة، فقد وصل عددهم إلى سبعين كما تذكر بعض روايات أبي هريرة. ومن المعلوم أن الصفة لا تستقبل إلا العزاب ممن ليس لهم أهل ولا أولاد.
8- وقد رأينا كثرة السرايا – في الفصل السابق – في هذه المدة التي سبقت الفتح ولا مانع أن نذكر بحديث بريدة في هذا الصدد.
قال بريدة بن الحصيب:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ: “وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ..” (1)
ونعتقد أنه بموجب هذه التعليمات التي كان يزود بها قادة السرايا، فإن كثيراً من الناس في هذه المدة قد تحولوا إلى المدينة أو إلى ما حولها.
وبهذا تصل الكثافة السكانية أقصاها ما قبل الفتح. .
9- على أن أفواج الهجرة هذه قد توقفت بعد فتح مكة، فقد قال ﷺ:
“لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ”
وكان آخر المهاجرين العباس عم النبي ﷺ.
أما ما يتعلق بالمنافقين، فقد خضدت شوكتهم، وأصبحوا أفراداً قلائل بالنسبة إلى هذه الكثرة الكاثرة من المؤمنين، كما أضحت نواياهم مكشوفة، الأمر الذي قيد حركتهم، وإن لم يمنعها نهائياً.
_______________________
1. رواه مسلم برقم 1731.