يوم الفرقان
وانتهت معركة بدر. .
كان ذلك في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان للعام الثاني من الهجرة. ذلكم هو يوم الفرقان.
جيش قوامه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لم يخرج للقتال، ولم يستعد له، وجد نفسه فجأة في ميدان المعركة.
وجيش خرج قاصداً للقتال، متخذاً له العدة، أهبته على أتمها، قوامه ألف مقاتل.
وما هي إلا ساعة من زمن حتى انتهى كل شيء، وانتصرت القلة، وانهزمت الكثرة هزيمة منكرة..
كيف حدث هذا؟:
سؤال حير المشركين من قريش وغيرها، كما فاجأ اليهود. .
كل المعطيات الحسابية المادية كانت تعطي نتيجة أخرى غير ما حصل. ولذلك أصر أبو جهل على خوض المعركة باعتبارها معركة مضمونة النتيجة. وهذا عمير بن وهب يؤكد هذه النتيجة فالقوم قليلو العدد والعُدد ولكنه يتوقع كثرة القتلى من الجانبين. .
ولهذا لما وصل الخبر إلى قريش لم تصدق. . فقد وقف الحيسمان بن عبدالله الخزاعي، وكان أول من وصل إلى مكة، وقف يعدد القتلى. . حتى ظنه بعضهم قد فقد عقله. .
ولما وصل الخبر إلى المدينة، وقد قدم به زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة، قال كعب بن الأشرف: أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمداً أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
والذي نريد الحديث عنه هو النتائج التي أسفر عنها هذا اللقاء، وخاصة أنه اللقاء الأول.
الآثار العامة لبدر:
كانت آثار يوم بدر عظيمة بعيدة المدى، حتى لنستطيع القول بأن ما حدث بعدها من أحداث إنما كان من آثارها ومن ذلك:
1- قوة المسلمين: فقد برزت على واقع الأحداث هذه القوة التي لم يكن يحسب لها حساب، والتي عبر عنها أبو جهل بقوله: “إنهم أكلة جزور” وهذا يدل على استهانته بهم على الأقل من الناحية العددية.
2- جرح قريش: وكان الجرح الذي أصاب كبرياء قريش كبيراً جداً، حتى لم يصدقوا الخبر أول الأمر، ثم لما تبين لهم صدقه، وأنه لم يخل بيت من بيوت مكة من إصابة. . ناحت على قتلاها شهراً ثم انتهت حتى لا يشمت محمد ﷺ على حد زعمها، ولقد مات أبو لهب بعد تأكد الخبر بسبعة أيام كمداُ وغماً، وحلف أبو سفيان ألا يمس رأسه الماء حتى يثأر. .
3- خيبة أمل اليهود: كان اليهود ينتظرون ويتوقعون خبر هزيمة المسلمين، ولما جاء الأمر على غير ما يشتهون، حزنوا، وبدى على وجوههم بعض ما كانت تكنه نفوسهم من الحقد والضغينة والكيد، ولقد رأينا بعض ذلك في كلمة كعب بن الأشرف حين بلغه الخبر. .
4- الإعلام: لقد وصلت أنباء هذا الانتصار إلى كل أرجاء الجزيرة العربية وكان لهذا أثره في إحجام الذين كانوا يفكرون بالنيل من القوة الجديدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد بدأت منولة قريش تتزعزع، فها هي قد فشلت في أول لقاء مع عظم حجو قوتها. . ولعل هذا الجرح في نفس قريش كان أكبر من فقدها من فقدته من قتلاها. . ولذا بدأت تفكر بالثأر لاستعادة مكانتها.
آثار بدر بالنسبة للمسلمين:
1- تعد بدر بداية لعهد جديد، فقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل، وكانت فرقاناً بين عهدين من تاريخ الحركة الإسلامية، عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، كما يقول سيد قطب رحمه الله (1).
فقد صبر المسلمون على انتفاش الباطل طويلاً، وذاقوا مرارة ذلك على مدى سنوات غير قليلة وكان يوم بدر يوماً فاصلاً، كان إيذاناً بانتهاء تلك الفترة ليبدأ عهد جديد يحتاج إلى نوع آخر من الصبر والمصابرة في ميادين القتال وغيرها.
2- وبدأ واقع جديد تغيرت فيه الموازين، فقد رأى المسلمون من خلال الواقع العملي أن القوة المادية والعددية وحدها ليست هي عوامل النصر، وأن هناك عوامل غير منظورة، تلك هي الإيمان والآثار العديدة المترتبة عليه والمنبثة في شتى جوانب النفس الإنسانية.
3- السلطة الكاملة: كانت بيعة العقبة الثانية تنص على أن الأنصار يمنعون الرسول ﷺ مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. ولم يكن فيها أن يخرج بهم إلى عدو.
_______________________
1. في ظلال القرآن 3/ 1522. أقول: ولهذا المعنى اعتبرنا بدراً بداية للمرحلة الثانية في تقسيمنا للحياة المدنية.
وقد كانت جميع السرايا قبل بدر وكذلك الغزوات قاصرة على المهاجرين، كما رأينا، فلما كانت الدعوة إلى بدر كانت على عجل فقد قال ﷺ:
“إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: “لَا، مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا” (1).
وهكذا كانت الدعوة عامة لمن كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وكان الخروج من أجل العير، ثم تغير الموقف وأصبح المسلمون أمام النفير. وكان النبي ﷺ يتخوف أن لا ترى الأنصار وجوب مناصرته خارج المدينة. . فقال: “أشيروا علي أيها الناس. .”، فلما كرر قوله، قال سعد بن معاذ:
– والله لكانك تريدنا يا رسول الله.
– قال: “أجل”.
– قال: (قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا وموايثقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوناً غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله).
فسر ﷺ بقول سعد ونشطه ما سمع منه. .
_______________________
1. رواه مسلم، انظر جامع الأصول برقم 6014.
لم تكن كلمات سعد بن معاذ موافقة على الاشتراك في المعركة وحسب، وإنما كانت تعبيراً عن حقيقة مهمة، وهي أن الأنصار في إيمانهم مثلهم مثل المهاجرين، لا يحده اتفاق أو معاهدة، وإنما هو التصديق المطلق والطاعة لله ولرسوله، ويستطيع صلى الله عليه وسلم أن يأمر – بعد الآن – بما أراد دون حساب لما قد تفسر به بعض نصوص البيعة، فقد تجاوز الأنصار هذه الحاجز. . فهو الإيمان غير المشروط.
وهكذا توثق الرسول صلى الله عليه وسلم من استكمال سلطته، لا فرق بين الأنصار والمهاجرين وكان هذا أيضاً بداية عهد جديد في ميدان الجهاد. .
إن الانتصار في بدر، لا يعني اطمئنان المسلمين إلى قوتهم وعدم المبالاة، فقد فتح هذا النصر الأعين عليهم، من قريش وغيرها على أخذ الحيطة والاستعداد للقائهم في المرات القادمة، ولذلك كان على المسلمين أن يكونوا على بصيرة من أمرهم، وأن يكون استعدادهم تاماً لكل طارئ يستجد على الساحة.
ولهذا كانت عيون المسلمين مبثوثة في كل مكان تستطلع الأخبار.
– وبلغه صلى الله عليه وسلم تجمع بني سليم وغطفان على ماء يقال له الكدر، يريدون المدينة فخرج في مائتي رجل فباغتهم. . وهربوا تاركين نعمهم.
– ثم بلغه تجمع بني ثعلبة وبني محارب بقيادة دعثور بن الحارث، فخرج إليهم في أربعمائة وخمسين رجلاً. . فهربوا. . وأقام صلى الله عليه وسلم ينجد شهر صفر كله. .
– ثم بلغه تجمع بني سليم. . فخرج في ثلاثمائة رجل حتى بلغ بحران. فوجدهم قد تفرقوا.
– ونقض بنو قينقاع من اليهود العهد، وانتقصوا المسلمين، وحاول ﷺ أن يذكرهم فكان أن أغلظوا الجواب وقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك؟ لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. .
فحاصرهم صلى الله عليه وسلم في حصنهم خمس عشرة ليلة. . ثم أجلاهم عن المدينة.
وهكذا كان على المسلمين أن يكونوا حذرين مما يحاك لهم، فقد تطلعت إليهم الأعين حسداً وحنقاً وكيداً، وأصبحوا محط الأنظار بغياً وعدواناً.
غزوة أحد
كان حرياً بقريش أن لا تسكت على تلك الهزيمة، وأن تحاول استعادة مكانتها، فقام أبناء الذين قتلوا في بدر من أمثال: عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية. .يطالبون أبا سفيان أن يمدهم بمال التجارة التي كانت سبباً لمعركة بدر. .
وكان كعب بن الأشرف قد قدم مكة يبكي قتلى قريش ويحرض على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجاء أيضاً من تلك المدينة أبو عامر عبد عمرو – الفاسق – في بعض غلمان من الأوس يحرض قريشاً، ويعدهم بأن معه قوة تنتظره هناك. .
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. . وكان رأي الأكثرية على الخروج إليهم. .
وسار صلى الله عليه وسلم إلى أحد وفي الطريق رجع عبدالله بن أبي بن سلول – وكان قد أسلم بعد بدر – ورجع معه ثلث الناس. .
وتابع جيش المسلمين مسيره في سبعمائة رجل. . وُضع منهم خمسون من الرماة على الجبل لحماية ظهر المسلمين، وأمرهم صلى الله عليه وسلم ألا يغادروا أماكنهم سواء أكانت لهم أم عليهم. .
وجاء المشركون في ثلاث آلاف مقاتل..
ودارت المعركة وانتصر المسلمون. . ثم خالف بعض الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا فالتف المشركون وقتلوا بقية الرماة وأصاب المسلمين ما أصابهم، وأصيب صلى الله عليه وسلم بجراح. .
وعاد جيش المشركين أدراجه إلى مكة، ثم تذكروا أثناء الطريق أنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال على قيد الحياة. . وفكروا بالعودة ثانية، ولكن قطع عليهم هذا التفكير ما بلغهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعقابهم وقد بلغ حمراء الأسد. .
انتصر المسلمون في أحد، ثم ذهب النصر من أيديهم لخلل يسير وهو عدم انضباط بعض الرماة بالأوامر التي صدرت إليهم. .
وكان لهذا الوضع الجديد آثاره على جميع الأصعدة. .
فقد كان فرح اليهود واضحاً لم يستطيعوا إخفاءه. .
وقد كانت شماتة عبدالله بن أبي بن سلول وجماعته واضحة لا يخفيها ذلك التظاهر المتصنع بالحزن والأسى. .
وبدأ التطاول على المسلمين داخلياً وخارجياً. فهاهم اليهود يستغلون الفرصة لتضخيم انتصار قريش، وإظهار المسلمين بمظهر الضعف والوهن، وقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب نبي قد في بدنه وفي أصحابه.
ومن الناحية الخارجية فقد بدأت تظهر مطامع بعض مشركي العرب في أنحاء الجزيرة بالمدينة، وخاصة بعد سماعهم قصة ذلك الانتصار المضخم. .
– فهذا عامر بن الطفيل العامري جاء إلى المدينة يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقاسمه الملك؟!
– كان يوم أحد يوم النصف من شوال من العام الثالث للهجرة، وبعد انتهاء موسم الحج بلغ النبي أم طلحة بن خويلد الأسدي قد جمع حلفاء بني أسد بقصد حربه صلى الله عليه وسلم، فبعث له أبا سلمة في مائة وخمسين من الأنصار والمهاجرين. . فلما انتهوا إليهم تفرقوا. .
– وفي شهر محرم جمع خالد بن سفيان الهذلي جموعه يريد المدينة. . فأرسل صلى الله علية وسلم عبدالله بن أنيس. . فقتله..
ولما تبين للمشركين يقظة النبي ﷺ ومعرفته بما يجري من حوله لجأ المشركون إلى الخديعة. . فكانت قصة يوم الرجيع، وقصة بئر معونة، اللتين أصيب بهما من أصيب من المسلمين غدراً.
وفي السنة الرابعة خرج ﷺ إلى بني النضير يستعينهم في دية رجلين – وفقاً للاتفاق المبرم – فتظاهروا بتلبية طلبه ثم عمدوا إلى صخرة وأرادوا إلقاءها عليه وقتله، فأطلعه الله على ذلك.. فحاصرهم ثم أجلاهم. .
وهكذا تمر الأيام والمسلمون في جهاد دائم تفرضه عليهم الظروف المحيطة بهم. .
غزوة الأحزاب
ذهب بنو النضير إلى خيبر. . ثم انطلق زعماؤهم إلى قريش وغطفان. . يحرضونهم على حرب رسول الله ﷺ.
وسرت قريش لذلك وسارعت لتلبيته، وكذلك عطفان. .
ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه واستشار أصحابه. . وكان حفر الخندق. .
ووصل المشركون فوجدوا أنفسهم أمام الخندق. . وطال مكوثهم. . ثم استطاعوا إقناع قريظة بنقض العهد مع الرسول ﷺ. .
وكانت أياماً عصيبة بالنسبة للمسلمين
{وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ}
[الأحزاب: 10]
ثم فرج الله عنهم بفضله ورحمته. .
وغادرت الأحزاب مواقعها. .
وكانت بعد ذلك تصفية الحساب مع بني قريظة جزاء خيانتهم.
كانت غزوة الأحزاب ذروة الخط البياني في هجوم المشركين على المدينة، وكانت كذلك نهاية له، وفقد قال ﷺ بعد ذهاب الأحزاب: “لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا” وفي رواية: “الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم” (1).
وتنفس المسلمون الصعداء بعد الخندق، وأتيح لهم بعد ذلك أن يجدوا شيئاً من الراحة ولو إلى مدة يسيرة.
– فبعد ستة أشهر من قريظة، خرج ﷺ يريد بني لحيان الذين غدروا بأصحاب الرجيع، وأظهر أنه يريد بلاد الشام، وذلك بقصد التمويه. . ولكنهم هربوا. . وأرسل فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش.
– وفي جمادى الأولى سنة ست من الهجرة بعث ﷺ زيد بن حارثة في مائة وسبعين رجلاً لاعتراض تجارة لقريش. . فأخذوها وأسروا ناساً ممن كان في العير.
– وفي شعبان سنة ست من الهجرة، بلغه ﷺ أن الحارث بن ضرار يجمع بني المصطلق لحربه، فأرسل إليه بريدة بن الحصيب، حيث تأكد من الخبر، ثم ندب ﷺ الناس وخرج إليهم وداهمهم وقتل مقاتلتهم. .
– وبعث ﷺ أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة إلى سيف البحر يرصدون عيراً لقريش.
– كما كانت عيونه ﷺ ترصد تحركات اليهود في خيبر. .
_______________________
1. البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق.
تلك هي الخطوط العريضة التي تبين لنا الحركة الجهادية والسياسية فيما بين بدر والحديبية. تلك الحركة التي لم تهدأ، ولم تعرف الراحة في يوم من الأيام، وكان على المدينة أن تكون عيونها ساهرة في كان مكان في طول الجزيرة وعرضها، تتعرف ما يدور فيها، فقد كانت هجمة الكفر شديدة قاسية.
وقد فوتت يقظة المسلمين على المشركين الكثير من الخطط التي كانت قد أعددت للنيل منهم، والغدر بهم.
وقد تميزت خطته ﷺفي الأحداث التي وقعت في هذه الفترة بسرعة المبادرة، ومباغتة أعدائه، وعدم إتاحته الفرصة لهم للبدء بتنفيذ ما يريدون وفي هذا ما فيه من صيانة لطاقات المسلمين، والحفاظ عليها. . كما أنه كان مرهباً لأعداء المسلمين.