×

الوَصِيَّة بالثوَابِتِ

بعد هذه الرحلة مع الدعوة – ابتداء من منطلقها وحتى أواخر حياته ﷺ – يحسن بنا أن نتوقف لنتعرف على الوضع الذي وصل إليه المجتمع المسلم في ظل التربية الكريمة التي كان صلى الله عليه وسلم يقوم بها بنفسه، ويرعاها في كل صغيرة وكبيرة.

ولعل خير ما يوضح لنا ذلك، وهو الحجة التي أعلن عنها رسول الله ﷺ ودعا الناس إليها والتي عرفت بحجة الوداع، والتي كانت قبل وفاته ﷺ بأشهر قليلة.

قال عبدالله بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ (1).

لقد أراد ﷺ أن يودع أمته في هذا الموسم العظيم، وأن تأخذ عنه مناسك الحج، وأن يوصيها بما ينبغي أن تعمل به وتلتزمه في مستقبل أيامها.

وفي يوم عرفة من هذا الموسم، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي خطبته المشهورة نزل قوله تعالى:

 

{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ }

[المائدة: 3].

 

فكان نزول هذه الآية أيذاناً بانتهاء مهمته صلى الله عليه وسلم، وقرب موعد وفاته، وهذا ما أدركه بعض الصحابة رضي الله عنهم.

على أن الآية الكريمة تحمل في ثناياها معان أخرى كثيرة، منها أنه ﷺ قد أكمل مهمته في تربية الأمة وتعليمها ووضعها على الصراط المستقيم، وأن هذا الجيل استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم استجابة لكل ما أمر به، وانتهى عن كل ما نهي عنه، فكان خير القرون كما أخبر عن ذلك النبي الكريم ﷺ.

_______________________

1. أخرجه البخاري (4402).

 


 

وإذن فقد كان هذا الجيل يمثل في حياته وتعامله المنهج الذي أراده الله لعباده، والذي على بقية الأجيال أن تسير على ما سار عليه.

وجاءت خطبته ﷺ في هذا الموسم لتؤكد على المعاني والقيم التي أقامها في المجتمع، ولتحذر الناس من الانصراف عنها وعدم الالتزام بها.

إنها قيم ماثلة عاشها الصحابة رضي الله عنهما وتربوا عليها يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة. إن كل كلمة كان يقولها ﷺ كانت الأسماع تتلقفها لتنقلها عملاً إلى واقع الحياة.

وبناء على هذا، فخطبة حجة الوداع كانت تلخيصاً لما ربى عليه النبي ﷺ أصحابه، ووصية لهم ولمن بعدهم أن يظلوا على هذا المستوى من التفاعل مع أوامر الله تعالى وتطبيقها.

وإذن: فالآية الكريمة تقرر أن الرسول ﷺ نجح أيما نجاح في مهمته فأدى الأمانة وبلغ الرسالة. وكان من نتيجة ذلك وجود الجيل الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.

وفي هذا الباب أحاول الوقوف على الخطوط الرئيسة التي جاءت في خطبته ﷺ، باعتبارها خلاصة لمعالم نشأة الجيل الأول كما أنها تعد المنهج الذي ينبغي على الأجيال العمل على تحقيقه. . إنها معالم للطريق.

ويحسن بنا أن نقف على نص الخطبة أولاً، ثم الانتقال بعد ذلك إلى فهم ما هدفت إليه.

ولكن ليس بين أيدينا نص واحد يشتمل على الخطبة كاملة، إذ كل صحابي حفظ بعضاً منها ونقل  ما حفظ، ولذا فنحن بحاجة إلى ذكر عدد من الأحاديث التي نقلت لنا ذلك مع حذف ما جاء فيها مكرراً.

نصوص الخطبة الشريفة:

1- عَنْ أَبِي بكرة رضي الله عنه قَالَ: قَعَدَ النبي ﷺ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ، ثم قال:

(إِنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)
(أَيُّ شَهْرٍ هَذَا)؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ (أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ)؟ قُلْنَا بَلَى.
قَالَ: (فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا)؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: (أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ)؟ قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا)؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ)؟ قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ) (1). 

2- وعن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله ﷺ، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ. . وذكر ما جاء في الحديث السابق، ثم قال:

_______________________

1. أخرجه البخاري (67) (4406) ومسلم (1679).

 


 

(أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ)
أَلَا إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ.

أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ كله.

ألا وإن كل دَمٍ كان في الجاهلية موضوع، وأول دم وُضِعَ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ.

أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا

أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) (1).

3- وفي حديث أبي نضرة أن رسول الله ﷺ قال:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . ثم ذكر ما جاء في الحديث الأول) (2).

_______________________

1. حديث صحيح، أخرجه الترمذي (1163) وأبو داود (3334) وابن ماجه (1851).

2. حديث صحيح، أخرجه أحمد (23489).


4- وفي حديث جبير بن مطعم: أنه شهد خطبة رسول الله ﷺ في يوم عرفة في حجة الوداع، فقال:

(أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا بِمَكَانِي هَذَا فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. . .) وذكر الحديث (1).

5- وفي حديث جابر بن عبدالله الذي وصف فيه حجة النبي ﷺ ذكر فيه خطبته يوم عرفة ومما جاء فيها:

(قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون)؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت (2). 

6- وعن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ خطب الناس في حجة الوداع فقال:

(قَدْ يَئِسَ الشَّيْطَانُ أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروه يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن كل مسلم أخ المسلم، المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، ولا تظلموا، ولا ترجعوا بعدي كفارااً يضرب بعضكم رقاب بعض) (3).

_______________________

1. حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه (231) (3056) والدارمي (234).

2. أخرجه مسلم (1218).

3. المستدرك (318).

 

مواضيع ذات صلة