وجاء الموسم من العام المقبل، فلقي الرسول ﷺ من أهل يثرب اثنا عشر رجلاً، منهم خمسة كانوا ممن أسلم والتقى به في الموسم السابق، فأسلموا وبايعوه على مثل بيعة النساء، وكانوا عشرة من الخزرج واثنان من الأوس.
“عن عبادة بن الصامت قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله ﷺ على بيعة النساء (1)، وذلك قبل أن تفترض الحرب: على أن تشرك بالله شيئاً،
_______________________
(1) ذكر الحافظ بن حجر رحمه الله – في صدد الحديث عن الحدود وهل هي كفارات – أن بيعة النساء وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَٰتُ يُبَايِعْنَكَ} وأن عبادة حضر بيعتين: بيعة العقبة وبيعة متأخرة على مثل بيعة النساء بعد نزول الآية، وأن بيعة العقبة إنما كانت على ما ذكره ابن إسحاق وغيره: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) ويؤيد قوله بحديث عبادة عند البخاري في كتاب الحدود، أن النبي ﷺ لما بايعهم قرأ الآية كلها. اهـ. ملخصاً من فتح الباري 1/ 65 -67 و 7/ 222. ويرد على قوله: أن ما ذكره عن ابن إسحاق كان في بيعة العقبة الثانية وحديث بيعة النساء كان في بيعة العقبة الأولى. ولا خلاف في وجود بيعتين. ولا مانع أن يكون عبادة بايع مرة أخرى بعد نزول الآية، فتعدد البيعة مذكور عن كثير من الصحابة. بل حدث أن بعض الصحابة بايع أكثر من مرة يوم بيعة الرضوان. وعبادة إنما حدث بذلك بعد وفاته ﷺ أي بعد نزول الآية، فلما كانت البيعة موافقة لما ورد فيها أطلق عليها اسم بيعة النساء.
ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر” (1).
وأتم القوم حجهم، ولما أرادوا الانصراف، بعث رسول الله ﷺ معهم مصعب بن عمير – بناء على طلبهم (2) – وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. وكان يسمى بعد ذلك في المدينة “المقرئ”.
ومصعب بن عمير الذي أوكلت إليه هذه المهمة، قرشي من بني عبد الدار، وكان فتى مكة يومئذ شباباً وجمالاً وتيهاً، أسلم مع الرعيل الأول ولما كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة كان أحد أفرادها. . ثم عاد إلى مكة. . واختيار رسول الله ﷺ له يبين لنا مكانته وفقهه للدعوة وصلته بالقرآن. إذ المهمة الموكلة إليه هي تبليغ هذه الدعوة سلوكاً وفكراً وفطانة وحكمة.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 433 ومعناه في البخاري.
(2) في رواية ابن إسحاق أنهم كانوا كتبوا إليه ﷺ أن ابعث لنا من يقرئنا القرآن.
ونزل مصعب على أسعد بن زرارة، حيث كانت إقامته عنده. وكان يصلي بهم ويؤدي دوره في المهمة التي كلفه بها رسول الله ﷺ. . وقد عاصر مصعب كل مراحل الاضطهاد التي مر بها المسلمون في مكة وهو يتركها اليوم وهو على علم بسعي الرسول ﷺ الجاد لإيجاد القاعدة التي يقام عليها بناء الإسلام، إن المسلمين بين مهاجر إلى الحبشة وبين مضطهد في مكة. . كل هذا يجعله أكثر وأكثر شعوراً بالمسؤولية. . واندفاعاً ليكسب للدعوة الأنصار الذين يمكنها بهم أن تأخذ موقعها على الساحة.