×

بيوت النبي ﷺ

من المعروف أن النبي عندما هاجر إلى المدينة، نزل في بيت أبي أيوب الأنصاري، وعندما بنى مسجده الشريف بنى بجانبه غرفتين، واحدة منهما لزوجته سودة بنت زمعة، والأخرى أُعدت لعائشة، وكان قد عقد عليها.

كانت القبلة يومئذ إلى بيت المقدس، وكانت الغرفتان في مؤخرة المسجد من الجهة الشرقية، فلما تحولت القبلة إلى الكعبة المشرفة أصحبتا في مقدمة جدار المسجد، إلى يسار المصلي عندما يتوجه إلى الكعبة.

وأما بقية الغرف فلم تبن إلا عند الحاجة إليها، فكان النبي كلما أحدث زواجاً بني غرفة.

قال ابن سعد: كانت لحارثة بن النعمان منازل قريبة من المسجد، فكلما أحدث رسول الله أهلاً تحول له حارثة عن منزل، حتى قال النبي :

(لقد استحييت من حارثة مما يتحول لنا عن منازله).

 وحارثة بن النعمان صحابي أنصاري شهد بدراً والمشاهد كلها، وكف بصره في آخر حياته، وكان من أبر الناس بأمه .

 وفعل حارثة كرم يسجل له، ولكنه مما لا شك فيه أنه كافأه على ذلك، فإن كان فعله هدية فقد كان  يكافئ على الهدية بأضعافها، وقد يكون اشترى منه هذه المنازل ويعطيه ثمنها، ويشكر له فعله لأنه أتاح له أن تكون بيوت أزواجه قريبة من بعضها قريبة من المسجد، وقد رأينا أنه لم يقبل أرض المسجد حتى دفع ثمنها.

 والمقصود بـ”المنازل” الأرض التي تبنى عليها المنازل.

 وكانت هذه البيوت كلها في شرقي المسجد، على يسار المصلي. . كما سبق ذكر ذلك.

وأما بناؤها فكان من اللبن، وسقفها من الجريد، وكانت تسعة أبيات.

 وكان لأربعة منها حجر من جريد، والمقصود بالحجرة: الفسحة تكون أمام الغرفة محاطة بشيء يمنع دخول الناس إليها، وكان سور هذه الغرف الجريد المقوى بالطين.

وكان لهذه الغرف والحجرات أبواب وستور، فقد روي أن باب غرفة عائشة كان بمصراع واحد من خشب العرعر أو الساج، كما روي أن باب النبي  كان يُقرع بالأظافر.

 وجاء في الحديث أن آخر نظرة نظرها لأصحابه، أنه رفع الستر. .

والذي يبدو لي أن الغرف كان لها أبواب من خشب، وأما الحجرات التي أمام الغرف، فكانت عليها الستور.

وهذه الستور كانت من مسوح الشعر، وقد قاس عمر بن أبي أنيس واحداً منها فكان طوله ثلاثة أذرع، وعرضه ذراع.

ويحسن بنا أن نترك وصف هذه الغرف والحجر إلى من رآها:

قال عبدالله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي  حين هدمها عمر بن عبدالعزيز، كانت بيوتاً باللبن، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين.

وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج رسول الله من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبدالملك يُقرأ، يأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم.

 وأما مقاييسها: فقد قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت أزواج النبي في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي.

 وروى البخاري في “الأدب المفرد” عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشاة من خارج بمسوح الشعر، وأظن أن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ستة أو سبعة أذرع، ومن داخل عشرة أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع (1).

 قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات لا حجر لها.

وعلى هذا فالحجر نوعان: أربعة منها عبارة عن غرفة واحدة وأمامها فسحة، والباقي غرف فقط.

 ومقاييس النوع الأول: الفسحة من 3 – 3,5 متراً. والغرفة (5) أمتار طولاً وعرضها ما بين 3 – 3,5 متراً وأما الارتفاع فهو بمقدار ما يقف الإنسان ويمد يده أي 2،25 – 2،5 متراً.

 والنوع الثاني غرفة فقط بطول (5) أمتار وعرض من 3 – 3،5 متراً.

 إنها بشكل عام غرف ضيقة، فقد ورد في الحديث الصحيح: أن النبي كان إذا أراد السجود في صلاة الليل غمز عائشة فكفت رجليها ريثما يسجد، فإذا قام بسطتهما.

 ولا شك بأن أزواج النبي كن حريصات على إصلاح هذه الغرف بحدود استطاعتهن فقد حدث أثناء غياب الرسول في غزوة دومة الجندل أن أم سلمة بنت حجرتها باللبن بدلاً من الجريد، فلما قدم رسول الله نظر إلى اللبن فقال: (ما هذا البناء؟) قالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس فقال: (يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان).

______________________

1. “الأدب المفرد” رقم (451).


 

بقيت هذه البيوت حتى أمر عبدالملك بن مروان بهدمها توسعة للمسجد النبوي الشريف، ويبدو أن هدمها كان تصرفاً من حاكم بحكم منصبه، أما أهل الرأي فلم يكونوا راضين عن ذلك:

قال عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول يوم هدمت: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر.

وقال عمر بن أبي أنس: لقد رأيتني – يوم هدمت – في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله ، منهم أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وإنهم ليبكون حتى أخضل الدمع لحاهم، وقال يومئذ أبو أمامة:

ليتها تركت فلم تهدم، حتى يقصر الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده (1).

ومهما يكن من أمر، فلئن أزيلت هذه البيوت الكريمة من دنيا الواقع فستظل ماثلة في أذهان المؤمنين ما داموا يقرؤون كتاب الله الذي خلد ذكرها في آيات كريمة منه.

إنها ستكون حاضرة ماثلة في أذهانهم كلما قرؤوا قوله تعالى: 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ. . .}

[الأحزاب: 53].

______________________

1. يراجع في هذا الموضوع:

– “طبقات ابن سعد” (1/ 499- 500).


– “الوفا بأحوال المصطفى” لابن الجوزي (1/ 405 – 406).


– “خلاصة الوفا” للسمهودي (219- 222).


– “البداية والنهاية” لابن كثير (3/ 202).


– “شرح الزرقاني على المواهب” (1/ 370).


– “مرآة الحرمين” لإبراهيم رفعت (1/ 462).


وقوله تعالى: 

{وَٱذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}

[الأحزاب: 34].

وقوله تعالى: 

{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ. .}

[الأحزاب: 33].

وقوله تعالى: 

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}

[الحجرات: 4].

 لقد ارتبط بهذه البيوت سجل حافل من تاريخ السيرة النبوية الكريمة، وهذا ما يفسر لنا قول عطاء: فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم. . وفي مقدمة هؤلاء الباكين سعيد بن المسيب وأبناء الصحابة الذين سبق ذكرهم وغيرهم وغيرهم.

 أما أثات تلك البيوت فكان متناسقاً مع بساطتها وتواضعها:

قالت عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ينام عليه مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ، وكانت وسادته التي يتكئ عليها من أدم حشوها ليف

(1).

 وفي قصة إسلام عدي بن حاتم، قال: ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلي وقال: (اجلس على هذه) قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: (بل أنت) فجلست عليها وجلس رسول الله بالأرض (2).

 ويصف لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغرفة التي اعتزل النبي فيها نساءه، فيقول: وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت. .(3).

تلك أخبار تصور لنا مان كان في هذه البيوت من متاع. .

______________________


1. رواه البخاري (3456) ومسلم (2082).

2. “سيرة ابن هشام” (2/ 580).

3. رواه البخاري (4913)، ومسلم (1479).


قد يقول قائل: إن بيوت جميع الناس يومئذ كانت كذلك، ولقد عاش كما هو شأن جميع الناس في مجتمعه.

والجواب على هذا القول: إنه لو كان الأمر كذلك لما كان لتمني سعيد بن المسيب وأبناء الصحابة الذين رأوا هدم هذه البيوت، أن تبقى ليراها الناس، لم يكن لتمنيهم معنى.

 لقد عرف الناس يومئذ المزركشة من الحرير والديباج، وعرفوا آنية الذهب والفضة التي نهى عنها الإسلام، ولو لم تكن معروفة، لما كان لنهيه عنها معنى.

 قال عائشة رضي الله عنها: دخلت علي امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله ﷺ قطيفة مثنية، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل علي رسول الله (1). فقال: (ما هذا يا عائشة؟) قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك، فبعثت إلي بهذا، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة) (2).

 لقد ظل تعامله ﷺ مع هذه الحوائج في مفهوم كونها وسائل ولم ترتقِ يوماً لتصبح في مقام الغايات، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:

(مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)

(3).

 كان ذلك حديثاً عن بيوته صلى الله عليه وسلم بشكل عام.

______________________


1. رواه أبو داود (5237) وخلاصته أنه صلى الله عليه وسلم مر على بناء فيه قبة مشرفة، فأعرض عن صاحبها حتى هدمها.

2. “المواهب اللدنية” للقسطلاني (2/ 417).

3. رواه الترمذي (2377).


 

وقد يكون من المستحسن أن نخص – بعد ذلك – بالذكر واحداً منها. ذلك البيت الذي كان المشهد الأخير له على بابه. 

قال أنس رضي الله عنه:  كَانَ أَبو بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ لصَّلَاةِ الفجر – وقد أقيمت الصلاة – كَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ

(1).

 قال أنس: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله .

كانت الستر الذي رفعه ستر حجرة عائشة رضي الله عنها حيث كان في مرضه بعد أن استأذن بقية أزواجه. . ودفن (3). في المكان الذي توفي فيه في الحجرة نفسها، فأكرم الله تلك البقعة بجسده الطاهر، فأضحت أفضل بقعة على ظهر الأرض، وبينها وبين منبره (3). روضة من رياض الجنة (2).

قال ابن القيم: قال ابن عقيل: سألني سائل: أيما أفضل: حجرة النبي أو الكعبة؟ فقلت: إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل، وإن أردت: وهو فيها، فلا والله، ولا العرش وحملته، ولا جنة عدن، ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح (3).

وسئل ابن تيمية السؤال نفسه، فأجاب: أما نفس محمد فما خلق الله خلقاً أكرم  عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه (4).

______________________


1. رواه البخاري (680، 681، 1205)، ومسلم (419).

2. رواه البخاري (1195)، ومسلم (1390).

3. “بدائع الفوائد” للإمام ابن القيم (3/ 135 – 136).

4. “مجموع الفتاوى” (27/ 38).

 


وهكذا أضحت حجرة عائشة – التي هي أحب الخلق إليه – أفضل بقعة في الأرض بما حوته من جسده الطاهر .

 كان ذلك استطراداً أحببت أن أختم به الحديث عن بيوته .

 

مواضيع ذات صلة