×

حبه ﷺ لزوجاته

تزوج النبي ﷺ السيدة خديجة وأحبها، ولم يتزوج عليها، فانفردت طيلة حياتها بهذا الحب حتى توفاها الله تعالى. . ثم استمر هذا الحب اهتماماً بكل من يلوذ بها. . حتى غارت منها السيدة عائشة رضي الله عنها.

 ثم جاءت السيدة عائشة فكان لها مثل هذا الحب أو قريباً منه، وقد اشتهر أمر ذلك بين المسلمين ولم يكن سراً حتى رأينا الصحابة الذين يريدون تقديم الهدايا له يتحينون يومها الذي يكون عندها فيه. . كما رأينا.

 وتعد السيدة عائشة أقدم زوجاته – على صغر سنها – باستثناء السيدة سودة، ولقد كان فيها من الخصال. . ما لم يتوفر مثله فيمن جاء بعدها، ولذلك ظلت مكانة هذا الحب على حالها لم تتغير. .

 وإذا كان الحب يبدأ وينموا بـ”الإعجاب” فقد كان في عائشة مع مضي كل يوم جديد ظهور ما يعجب به النبي ﷺ ويحبه.

قال ابن القيم: وكان ﷺ إذا هويت شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عرقاً – وهو العظم الذي عليه لحم – أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حجرها. . (1).

 ويحسن أن نسجل بعض ما امتازت به السيدة عائشة رضي الله عنها:

فقد كانت وحدها الفتاة البكر التي تزوجها رسول الله ﷺ. أما بقية زوجاته جميعاً فكل منهن كانت متزوجة من رجل قبله أو أكثر. .

______________________

1. “زاد المعاد” (1/ 152)، وعند مسلم في الحديثين (300، 301).


وفي هذا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: 

قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: (في التي لم يرتع منها) تعني أن رسول الله ﷺ لم يتزوج بكراً غيرها (1).

وهي نبت أحب الناس إلى النبي ﷺ وهو أبو بكر رضي الله عنه.

قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه: أتيت النبي ﷺ فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) فَقُلْتُ: مِن الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُوهَا) (2).

وهي أصغر نسائه ﷺ سناً.

وهي من أجملهن إن لم تكن أجملهن.

وكانت رضي الله عنها عاقلة متكلمة ذات منطق وحجة، وهذا – والله أعلم – هو الذي عناه ﷺ بقوله: (إنها بنت أبي بكر) عندما ردت على زينب كما مر في الفصل السابق. .

ومعروف عن أبي بكر رضي الله عنه سرعة بديهته وقوة حجته، وقد شهد له بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يصف ما حدث يوم السقيفة:

قال عمر: أردت أن أتكلم يومئذ، وقد زورت (3) في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر. . فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل (4).

______________________


1. رواه البخاري (5077).

2. رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384).

3. أي: هيأتها وأصلحتها.

4. “سيرة ابن هشام” (2/ 659)، وأصله في “البخاري” (3667، 3668).


لقد كانت مثل أبيها منطقاً وحجة وعقلاً. .

قال معاوية رضي الله عنه: والله ما رأيت خطيباً قد أبلغ ولا أفصح ولا أفطن من عائشة (1).

يضاف إلى ذلك أدبها الجم الذي بدا في موقفها مع زينب، حيث احتملت قولها حتى اطمأنت إلى أن الرسول ﷺ لا يكره أن تنتصر لنفسها.

كانت توصف بالرزانة والحكمة. ومن مواقفها التي تظهر ذلك، موقفها يوم حادثة الإفك، حيث مضى شهر على الحادث، والرسول ﷺ لا يكلمها، ثم كان المشهد الأخير يوم نزل عليه الوحي ببراءتها، وفي المجلس والداها.

فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله ﷺ فاشكريه.

فقالت عائشة: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله تعالى.

وقد علق ابن القيم على هذه المواقف بقوله:

“ومن تأمل قول الصديقة، علم معرفتها، وقوة إيمانها، وتوليها النعمة لربها، وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجريدها التوحيد، وإدلالها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له. .

ولله ما كان أحبها إليه حين قالت: لا أحمد إلا الله، فإنه هو الذي أنزل براءتي، ولله ذلك الثبات والرزانة منها. . فلم تبادر إلى القيام إليه ﷺ والسرور برضاه وقربه، مع شدة محبتها له، وهذا غاية الثبات والقوة” (2).

______________________


1. “الفتح الرباني” للبنا (22/ 128).

2. “سيرة خير العباد” للإمام ابن القيم، نشره المكتب الإسلامي (ص 186 – 187).

 


وما من شك بأن سروره ﷺ بهذا الموقف منها أكبر من سروره لو قامت إليه، لأنها اتجهت بالشكر لمن يستحق الشكر وهو الله تعالى الذي أنزل براءتها. .

وكيف لا يزيد مثل هذا الموقف الحكيم محبتها في نفس رسول الله ﷺ؟!

ومما امتازت به رضي الله عنها ما أفصح عنه النبي ﷺ بقوله لأم سلمة، حينما جاءت نائبة عن بقية أزواجه:

(يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة) (1).

وهذه خصوصية لها من قبل الله تعالى تدل على مكانتها.

وهو تعليل منه ﷺ لسلوكه تجاهها بسبب هذه الخصوصية.

وخصوصية أخرى لا تقل عن هذه، وهي: أن زواجه منها إنما كان بتوجيه من الله تعالى، وقد سبق الحديث عن ذلك.

ومن خصائصها: أنها كانت لها القدرة على توجيه غيرها. . نلمح ذلك في قصة عسل زينب: حيث كلفت سودة أن تقول للرسول قولاً عند دخوله عليها. . تقول سودة: والذي لا إله إلا هو، لقد كدت أنا أباديه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقاً منك. . والخطاب لعائشة رضي الله عنها.

ولمكانتها عند رسول الله ﷺ لجأت إليها صفية لاسترضائه ﷺ عليها، كما سبق ذكر ذلك، كما لجأت إليها حفصة لتستأذنه في أمر اعتكافها، كما سيأتي.

وكما حمل النبي ﷺ السلام للسيدة خديجة من جبريل عليه السلام، كذلك كان الشأن مع عائشة أيضاً، 

فقد قال لها ﷺ يوما: (يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته (2).

______________________


1. رواه البخاري (3217)، ومسلم (2447).

2. رواه البخاري (3217)، ومسلم (2447).


ولم يحصل هذا لغيرهما من زوجاته ﷺ.

ولعل هذه الأمور وغيرها، هي التي كانت ترفع مكانها في نفسه ﷺ فكان لها هذا الحب الذي تميزت به.

وكانت عائشة رضي الله عنها تعرف هذه المكانة وهذا الحب، ولذلك كانت تحب أن تدل به على ضرائرها. .

فقد جاء في حديث الترمذي، 

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي) فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ لِي: (أَمَا شَبِعْتِ أَمَا شَبِعْتِ؟) قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لَا لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ (1).

وكأنها تقول: قد بلغت ما أردت من النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه.

ولكن ذلك – وكما سبق القول – لم يكن بشكل من الأشكال على حساب عدله ﷺ بينهن، الذي سبق الحديث عنه.

ومما جاء في هذا الموضوع: أن عروة بن الزبير سأل خالته عائشة رضي الله عنها فقال: يا خالة، أي نساء رسول الله ﷺ كانت آثر عنده؟

فقالت: لقد كانت زينب بنت جحش وأم سلمة لهما مكانة عنده، وكانتا أحب نسائه إليه- فيما أحسب – بعدي (2).

______________________


1. رواه الترمذي (3691).

2. “طبقات ابن سعد” (1/ 114).

مواضيع ذات صلة