مكة بعد الهجرة:
بعد هجرته صلى الله عليه وسلم نستطيع القول بأن حركة الدعوة في مكة قد توقفت تماماً، بل إنها قبل الهجرة، وقد وصف غضبها إلى ذروته، بوصول المؤمنين إلى مكان يأمنون فيه، ولهم فيه أنصار؟
وكما أن المسلمين لم يدخروا وسعاً في اتخاذ الوسائل للهجرة من مكة إلى المدينة، فإن قريشاً لم تدخر وسعاً في منع هذه الهجرة ما استطاعت، وقد رأينا كيف تحايل المقداد بن عمرو، وعتبة بن غزوان، للفرار من قافلة أبي سفيان، والالتحاق بسرية عبيدة بن الحارث.
بل إن أبا جهل بن هشام، والحارث بن هشام، خرجاً من مكة حتى قدما المدينة وكان قد هاجر إليها عياش بن أبي ربيعة مع عمر بن الخطاب – وذلك قبل هجرته صلى الله عليه وسلم – وكان عياش ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فالتقيا به وكلماه بأن أمه نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراه. . وأقنعاه بالعودة ليبر قسم أمه. . وحذره عمر. . ولكنه ذهب معهما، فلما كان في الطريق عدواً عليه فأوثقاه ربطاً، ثم دخلا به مكة وفتناه . . (1).
____________________
1. البداية والنهاية 3/ 172.
الأوس والخزرج:
غلب الإسلام على هاتين القبيلتين قبل هجرته صلى الله عليه وسلم، ونعتقد أن الإسلام تابع طريق انتشاره فيهما بعد الهجرة، فقد أصبح الناس على مقربة منه ﷺ يسمعونه وهو يتحدث إليهم ويرونه بينهم فكان هذا مدعاة إلى تتابع انتشار الدعوة، خاصة وقد غلب الإسلام على الجو العام في هاتين القبيلتين.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة إذ قدمها، شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بني له فيها مسجده ومساكنه، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأمية، وتلك أوس الله – وهم حي من الأوس – فإنهم أقاموا على شركهم (1).
ومعنى هذا: أنه لم يمض عام واحد حتى استكمل الإسلام وجوده في الأنصار، عدا من ذكر، وهم قليل.
اليهود:
كان اليهود أحق الناس بالمسارعة إلى الإسلام، فهم أصحاب كتاب وهم الذين كانوا يتوعدون الأوس والخزرج ببعثة النبي الكريم والإيمان به. .
ولكنهم كانوا يتوقعون أن يكون هذا الرسول منهم، فلما بُعث صلى الله عليه وسلم وكان من العرب، نصبوا له العداوة بغياً وحسداً. .
وذلك لما وصل ﷺ إلى المدينة، ودعاهم إلى الإسلام لم يستجيبوا إلا ما كان من عبدالله بن سلام.
____________________
1. سيرة ابن هشام 1/ 500.
ورى البخاري عن أنس:
(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُها إِلَّا نَبِيٌّ فَلما أجابه ﷺ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) (1).
وفي رواية عنده عن أنس أيضاً:
(.. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمْ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا قَالُوا مَا نَعْلَمُهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا . .) (2).
وهكذا بدأ جحودهم من الأيام الأولى للهجرة. وبدأ معه انحرافهم في سلوكهم تجاه المسلمين، وقد نزلت آيات كثيرة من سورة البقرة – وهي السورة الأولى نزولاً في المدينة – تبين انحرافهم وعصيانهم وتذكر بسوء أخلاقهم وطواياهم. .
ولما نزلت الآيات الكريمة بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كانت لهم صولات وجولات في محاولة بلبلة أفكار المسلمين. . وقد أشارت آيات سورة البقرة إلى ذلك:
قال تعالى:
{سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ} (3).
____________________
1. رواه البخاري برقم 3938.
2. رواه البخاري برقم 3911.
3. سورة البقرة: الآية 142.
ولقد عز عليهم أن يروا الأوس والخزرج وقد أصبحوا يداً واحدة، جمعهم الإسلام على أخوة الإيمان مع إخوانهم المهاجرين، وهم الذين كانوا يثيرون الفتن بين القبيلتين لتضعف قوتهما فتكون لهم الغلبة عليهما.
مر شاس بن قيس وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا تفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، وقال أحدهما للآخر: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا، موعدكم الحرة، وتنادوا: السلاح السلاح.
فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: “يا معشر المسلمين، والله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم”.
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ. .(1).
وأنزل الله تعالى في ذلك:
____________________
1. سيرة ابن هشام 1/ 555- 557.
{َٰٓيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ.. } إلى قوله: وَأُولَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1).
وهكذا كانوا لا يدعون فرصة تفوتهم يستطيعون فيها الكيد للمؤمنين وإيقاع العداوة بينهم. .
باحث عن الحق:
كان في انتظار النبي ﷺ في المدينة رجل فارسي، طوف في أرجاء كثيرة باحثاً عن الدين الحق، حتى وصف له الرسول صلى الله عليه وسلم، وإظلال زمانه، ووصف له المكان الذي يهاجر إليه. . ذلكم هو سلمان الفارسي.
وفي طريقه إلى المدينة أسر وبيع بيع الرقيق واستقر كذلك في المدينة عند رجل يهودي. ولنترك الحديث له، قال:
(فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي قَالَ وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ مَاذَا تَقُولُ قَالَ فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ).
واستطاع سلمان التعرف على علامات النبوة التي حفظها من الأحبار الذين عاش معهم، وكان آخرها خاتم النبوة. .
____________________
1. سورة آل عمران: الآيات 100 – 105.
2. العذق: النخلة بحملها.
3. الرعدة من الخوف.
قال: (فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله ﷺ: “تحول”، فتحولت فقصصت عليه حديثي) (1).
وشغل سلمان بالرق بعد إسلامه، حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، ثم كاتب سيده بأمر من الرسول ﷺ وساعده المسلمون على أداء كتابته، وكانت أول مشاهده غزوة الخندق.
موقف القبائل العربية:
أما موقف بقية القبائل العربية غير قريش والأوس والخزرج، فقد كان موقف المتريث، ينتظرون ما تؤول إليه الأمور بينه ﷺ وبين قريش. الذين هم سدنة الكعبة وحماة الوثنية.
_______________________
1. انظر القصة بكاملها في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد للنبا 22/ 261 – 266.