القائمة الرئيسية

حركة الدعوة في المرحلة الثانية

لا شك بأن انتصار المسلمين في بدر كان له أثره الكبير في المدينة، وإن بعض المشركين من الأوس والخزرج قد أعلنوا إسلامهم إيماناً وعقيدة وتصديقاً ولكن بعضهم الآخر تظاهر بالإسلام وهم الذين عرفوا فيما بعد بالمنافقين.

ويحسن بنا أن نعطي صورة عن النفاق في هذه الفترة من الزمن.

النفاق:

ظل بعض الأوس والخزرج على شركهم بعد الهجرة المباركة، وقد امتنع بعض هؤلاء عن الإسلام بدافع الكبر، وقد كان لهم مكانتهم في قومهم. . وقد رأينا قصة واحد منهم وهو عبدالله بن أبي بن سلول، وكيف كان موقفه من رسول الله ﷺ. .

ولما كانت بدر رأوا أن الأمر يسير في صالح المؤمنين، وأنهم إذا ظلوا على شركهم سوف يفقدون مكانتهم في قومهم، عندها (قال ابن أبي بن سلول، ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول ﷺ على الإسلام فأسلموا) (1).

لم يكن أحد يدري أن إسلامهم لم يكن إسلاماً حقيقياً، وإنما كان تظاهراً بالإسلام، حتى مرت الأحداث فأوضحت ذلك.

_______________________

 

1. رواه البخاري برقم 4566.


 

كان أول ذلك حين حاصر النبي ﷺ بني قينقاع من اليهود ونزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن أبي فقال: أحسن في موالي. . فأعرض عنه. . فأدخل يديه في جيب درع رسول الله، فقال له أرسلني وغضب حتى رأوا لوجهه ﷺ ظللاً. ثم قال: “ويحك أرسلني”، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي. . فقال ﷺ: “هم لك”.

هذه الصورة من الإلحاح على الرسول ﷺ والأخذ بثوبه لم يحدث أن فعلها صحابي من قبل ولا من بعد، وهي تدل على عدم الاحترام والتقدير. .

ولما كان يوم أحد وخرج ﷺ في ألف من أصحابه. . فلما كانوا بين المدينة وأحد رجع عبدالله بثلث الناس. . وقال: ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ورجع بمن تبعه. وحاول عبدالله بن عمرو بن حرام إقناعهم بالعدول عن رجوعهم ولكنهم استعصوا عليه. .

وهذه الحادثة هي التي كشفت أمر عبدالله ومن معه، فقد كان قبل أحد – حفاظاً منه على مكانته في قومه – إذا كان يوم الجمعة وجلس صلى الله عليه وسلم ليخطب، قام عبدالله فقال: أيها الناس، هذا رسول الله ﷺ بين أظهركم أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس. 

فلما كان يوم الجمعة بعد أحد، قام يفعل ما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت. فخرج يتخطى رقاب الناس. .

والذي يبدو: أنه لم يكن جميع الذين رجعوا معه من المنافقين، وإنما كانوا جميعاً من المسلمين الجدد الذين أسلموا بعد بدر، وكان بعضهم لا يعرف ما ينبغي عليه تجاه النبي صلى الله عليه وسلم من الطاعة والتوقير. . ولكنهم لما اكتشفوا انحراف عبدالله بن أبي. . وذلك بعد نزول الآيات في فضح أمره. . عادوا إلى الصواب. . بينما استمر أتباعه على سيرتهم. .

وقد كانت مواقفهم بعد ذلك تنطلق من منطق الكفر لا من منطق الإيمان، فلما حاصر صلى الله عليه وسلم بني النضير، أرسل إليهم عبدالله بن أبي: أن أثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. . 

وفي يوم الخندق، والمسلمون في الموقف الحرج، كان المنافقون يشككون في شخصية الرسول ﷺ. . وقد فصلت سورة الأحزاب موقفهم السيئ وبينت ما كانت تكنه نفوسهم. .

ولم يتركوا بعد ذلك مناسبة للنيل من الرسول ﷺ وأصحابه إلا وفعلوها. . مما يطول ذكره. .

هذا المسلك المنحرف من المنافقين قد كلف الدعوة جهداً كبيراً، يبذل في غير طائل، سوى الحفاظ على وحدة صف المؤمنين، وعدم إتاحة الفرصة للمنافقين لإيجاد الثغرات، وخلخلة الصف.

وكمثال على ذلك. نسوق ما حدث في غزوة بني المصطلق:

بعد انتهاء الغزوة، وفي طريق العودة، اختصر غلام لعمر بن الخطاب مع غلام لبني عوف من الخزرج، فاقتتلا، فصرخ غلام بني عوف: يا معشر الأنصار، وصرخ الآخر: يا معشر المهاجرين، فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال:

أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب (1) قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم:

هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.

_______________________

1. كان لقباً للمهاجرين، لقبهم به المشركون، بسبب ما كانوا يلبسونه من الأزر الغليظة.


 

فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله ﷺ، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله ﷺ: “فكيف يا عمر إذا تحدث الناس إن محمداً يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل”، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرتحل فيها فارتحل الناس.

وجاء عبدالله بن أبي يعتذر ويحلف أنه ما قال. . وقال بعض الأنصار، عسى أن يكون الغلام قد أوهم. . 

وجاء أسيد بن حضير إلى النبي ﷺ فحياه بتحية النبوة، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله ﷺ: “أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟” قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: “عبدالله بن أبي”، قال: وما قال؟ قال: “زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”. قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز. .

ثم مشى رسول الله ﷺ بالناس، يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً.

وإنما فعل ذلك ﷺ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس. . ونزلت سورة “المنافقون” تبين صدق زيد بن أرقم، ومما جاء فيها قوله تعالى: 

{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1).

_______________________

1. سورة المنافقون: الآيتان 7- 8.


كانت تلك الحادثة بداية انحداره الاجتماعي، فقد انكشف أمره بالنسبة للمؤمنين الصادقين من قومه. فكان بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفونه.

وفي أواخر الطريق – طريق العودة من غزوة بني المصطلق – كانت قصة تخلف عائشة رضي الله عنها، وحديث الإفك الذي صاغه عبدالله بن أبي وروج له جماعته من المنافقين. .

ثم جاء القرآن الكريم بعد شهر ليثبت براءة عائشة رضي الله عنها. .

وهكذا كان المنافقون يشغلون المسلمين بإيذائهم وسخريتهم وكذبهم وقد تحمل المسلمون الشيء الكثير، وذلك بفضل تربية الصبر التي كان بوجههم إليها صلى الله عليه وسلم.

هذه الأحداث لا شك أنه كانت تأخذ شيئاً غير يسير من جهد المؤمنين وتفكيرهم الذي كان ينبغي أن يكون مصروفاً كله لأمر الدعوة.

ولكن هذه الأمور كانت ضرورية من حي تربية الجماعة الأولى، لتعيش الدعوة في واقع عملي فيه كل المنغصات الداخلية والخارجية. . ليتعرف المؤمنون كيف يتعاملون مع تلك الظروف الصعبة.

حركة الدعوة خارج المدينة:

إن الأحداث المتتابعة – كما بيناها في اختصار شديد في الفصل الأول – حالت دون حمل الدعوة خارج المدينة وكان لحادثتي الغدر – يوم الرجيع، وبئر معونة – أثرهما أيضاً.

ونستطيع القول بأنه لم ينضم إلى الإسلام قبل غزوة الخندق إلا العدد اليسير، نستدل على ذلك من عدد جيش المسلمين في الظروف الصعبة التي مرت به.

فقد كانت عدد هذا الجيش يوم أحد. سبعمائة مقاتل. . 

وكان عدده يوم الخندق ألف مقاتل (1) وبعض هذه الزيادة بين أحد والخندق أتت من رجوع بعض الذين رجعوا مع عبدالله يوم أحد إلى صوابهم، ومن كبر بعض الصغار الذين ردوا يوم أحد وقبلوا يوم الخندق كعبدالله بن عمر بن الخطاب.

وكان عدد المسلمين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، وهي بعد الخندق، وقد استنفر لها الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها.

وإذن فقد كانت حركة الدعوة بطيئة، ولكن هذا لم يمنع من امتدادها إلى بعض الأماكن وخاصة بعد الخندق، حيث أمن الناس أن قريشاً لن تعيد الكرة بعد فشلها الذريع مع من صاحبها.

_______________________

1. ذهبت بعض الروايات – سيرة ابن هشام 2/ 220 وابن سعد 2/ 66 والبداية 4/ 102 – إلى أن عدد المسلمين في غزوة الخندق كان ثلاثة آلاف.


وفي البخاري أنهم كانوا ألفاً (الحديث رقم 4102) وهو الصواب لأمور:

– إن الوقت الفاصل بين أحد والخندق لم يكن طويلاً يساعد على إسلام هذا العدد.

– ولو كان عددهم ثلاثة آلاف ما كانوا بحاجة إلى حفر الخندق فقد كانت نسبتهم إلى المشركين في بدر الثلث، وفي أحد الربع.

– ثم إنه صلى الله عليه وسلم استنفر الناس يوم خروجه إلى العمرة فلم يخرج إلا ألف وأربعمائة فأين البقية التي هي ألف وستمائة؟

– ثم إن المهمات التي وزعت ليلة الأحزاب نبين أن العدد كان ألفاً: فقد كان مع أسيد بن حضير مائتان في مهمة حراسة الخندق، وكان مع سلمة بن أسلم مائتا رجل، ومع زيد بن حارثة ثلاثمائة رجل ومهمتهما حراسة المدينة، وبقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة (شرح الزرقاني 2/ 118).

كل هذا يؤيد رواية البخاري.

ونستطيع أن نسجل من حوادث امتداد الدعوة ما يلي:

* قدم وفد عبد القيس على النبي ﷺ، قال:

“مَنْ الْقَوْمُ؟” قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ: “مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى”، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ  الْجَنَّةَ.. (1).

فنص الحديث يدل على أن مجيئهم كان قبل صلح الحديبية، فهم قد أتوا في الشهر الحرام، وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق (2) وقد كانوا مسلمين هم وقومهم.

* وذكرنا في الفصل السابق وصول عدد من الأسلميين إلى المدينة، خلال هذه الفترة، وأن مائة منهم شاركوا في غزوة الحديبية.

* وقدم في العام الخامس في شهر رجب وفد كبير من مزينة، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ورجعوا إلى بلادهم (3).

* وقد وفد من بني عبس، وذلك في وقت مبكر بعد الهجرة، فكانوا من المهاجرين الأولين، وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء بغية اعتراض عير لقريش. . (4).

_______________________

 

1. رواه البخاري برقم 53.

2. فتح الباري 1/ 132.

3. طبقات ابن سعد 1/ 291.

4. طبقات ابن سعد 1/ 295.


* وقدمت أشجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق. . فوادعهم. ثم أسلموا (5).

* وفي غزوة بني المصطلق. . حينما تزوج ﷺ جويرية بنت الحارث، وكان ذلك سبباً لإطلاق قومها، حيث قال المسلمون: أصهار رسول الله ﷺ. . ثم كان ذلك سبباً لإسلام بعض قومها. . (6).

* وأخيراً نستطيع أن نستلهم آيات سورة الفتح في حديثها عن المخلفين من الأعراب أن بعض القبائل أسلمت بعد الخندق وقبل صلح الحديبية. وتمركزت حول المدينة، ومنها غفار وجهينة والديل وأشجع، كما سوف نرى ذلك في الباب القادم إن شاء الله تعالى.

نلاحظ مما سبق أن الدعوة أخذت طريقها إلى قلوب الناس، ولكن حركتها كانت بطيئة نسبياً، بسبب إنشغال الرسول ﷺ بالأحداث التي مر ذكرها، كما أن هناك عاملاً  أخر كما ذكرنا من قبل هو انتظار الناس لما تؤول إليه الأمور بين مكة والمدينة.

ولا شك بأن الدعوة في مكة خلال هذه الفترة كانت متوقفة تماماً.

_______________________

 

1. طبقات ابن سعد 1/ 306.

2. سيرة ابن هشام 2/ 295 – 296.

مواضيع ذات صلة