القائمة الرئيسية

حفظ الدماء والأعراض والأموال

لقد امتن الله تعالى على قريش بالأمن الذي كانوا يعيشون فيه بمكة، وذلك في قوله تعالى:

{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}

[قريش: 3 -4].

وفي الحديث قوله ﷺ:

(مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (1).

فالأمن حاجة أساسية لا غنى لمجتمع عنها، ولذا كان من أول الأعمال التي قام بها النبي ﷺ بعد قدومه إلى المدينة، إبرام ذلك العقد – الذي سبق الحديث عنه – بين سكان المدينة من مسلمين ومشركين ويهود لضمان الأمن وتعيين مسؤولية كل فريق في ذلك.

والقضايا الرئيسة التي يتركز حولها الأمن هي:

– أن يكون الإنسان آمنا على نفسه فلا يعتدي عليه أحد.

– أن يكون آمناً على عرض حريمه ونسائه فلا يعتدي عليهن أحد.

– أن يكون آمناً على ماله فلا يعتدي عليه أحد.

ولقد كان في بيان الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما فيه الكفاية لضمان الأمن في كل أمور الإنسان الخاصة به، بل إن الحدود التي فرضها الله تعالى في القرآن الكريم إن هذه إلا الضمان الأوثق لذلك.

– فكان حد القصاص بالنفس عقوبة لمن اعتدى على غيره فقتله.

– وكان حد الزنى لمن اعتدى على أعراض الناس.

_______________________

1. رواه الترمذي (2346) وابن ماجه (4141).

 


– وكان حد القطع لمن اعتدى على أموال الآخرين.

ولقد آتت هذه الحدود أكلها في ضمان أمن الناس، ومع ذلك فلما لهذه القضية من مكانة في قيام المجتمع الصحيح السليم، كان لا بد أن يأخذ الحديث عنها مكانة في الخطبة العظيمة.

وعشرات الأحاديث التي نقلت لنا نقلت لنا خطبته ﷺ نقلت هذه الجانب من حديثه، ولعل أوفاها في ذلك هو حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وهو الحديث الأول في النصوص التي سبق ذكرها.

وهذا الحديث يتألف من فقرتين، الأولى تتحدث عن الأشهر الحرم، والثانية تتحدث عن حرمة الدماء والأعراض والأموال.

وما الفقرة الأولى إلا التمهيد للفقرة الثانية، كما سنرى ذلك.

كان العرب في جاهليتهم بتمسكون بملة إبراهيم عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر. . .

ونتج عن هذا اختلاط الأشهر وعدم التأكد من أن يوم عرفة هو في الحقيقة اليوم الذي ينبغي لهم أن يؤدوا النسك فيه.

فأخبر رسول الله ﷺ في خطبته جموع الحجيج أن ذلك اليوم صادف اليوم الصحيح الموافق لليوم الذي جعله الله لأداء هذا النسك، ورجعت الأشهر إلى توقيتها الصحيح قبل أن يقوم العرب بالتأخير والتقديم ورجع شهر المحرم إلى توقيته الصحيح في تلك السنة.

وبهذا طمأن النبي ﷺ الناس على صحة حجهم بقوله:

(إِنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)

وبهذا عاد التوقيت إلى الوضع الصحيح.

ثم سألهم عن الشهر الذي هم فيه بقوله: (أَيُّ شَهْرٍ هَذَا)؟ ثم سألهم عن البلد الذي هم فيه بقوله: (فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا)؟ ثم سألهم عن اليوم الذي هم فيه بقوله: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا)؟.

وسكت القوم بعد كل سؤال، لأنه يسألهم عن أمر معروف، فظنوا أنه سيعطي أسماء جديدة لما يسأل عنه.

فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم عقب سكوتهم: (أَلَيْسَ ذا الحجة. . )؟ فيقرر لهم ما كانوا على علم به، وكان فعله هذا ليلفت انتباههم إلى مكانة ما يسأل عنه.

– فالشهر الذي سألهم عنه شهر حرام.

– والبلد الذي سألهم عنه بلد حرام.

– واليوم الذي سألهم عنه يوم حرام.

كل ذلك كان منه ﷺ توطئة لما يريد تقريره من حرمة الدماء والأعراض والأموال.

ولهذا عقب على ذلك بقوله:

(فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا).

لقد كانت حرمة واحدة من هذه الحرم الثلاث كافية للتشبيه بها، ولكنها البلاغة النبوية الرفيعة أرادت تغليظ جريمة الاعتداء على هذه الحرمات، فكان هذا الأسلوب الذي لا نجد له مثيلاً في اللغة العربية.

إن حرمة المكان “مكة” كافية، وحرمة الشهر الحرام “ذي الحجة” كافية وحرمة يوم عرفة وحدها كافية. فلنتصور هذه الحرمات وقد اجتمعت إلى بعضها. . فهي في حجمها هذا المتصور، هي حرمة الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال.

وفي هذا من التنفير ما فيه من أمر المساس بهذه الحقوق أو الاعتداء عليها.

 إن قضية تقرير الأمن في المجتمع المسلم أمر لا مجال للتهاون فيها، ولذا كان في هذا التمثيل الرائع ما يقرب الفكرة التي أرادها صلى الله عليه وسلم من فكر المستمع في بيان ما ينتظر المعتدي على هذه الحرمات من عقوبة عند الله تعالى في الآخرة، مضافاً إليها عقوبته في الدنيا والتي سبق الحديث عنها في بيان الحدود التي تقام على أصحاب هذه الجرائم.

 والخلاصة: إنه كما ضبط الأمر في عهده ﷺ، فإنه يطلب من الأجيال الآتية بعده أن يحافظوا على ذلك، ولا يرجعوا بعده ضلالاً يضرب بعضهم رقاب بعض.

مواضيع ذات صلة